في الوقت الذي يتعامل فيه حزب المؤتمر الوطني ونظامه الحاكم ؛ والأجهزة الدعائية والإعلامية الحكومية مع العصيان المدني بمفاهيم وأساليب وأدوات القرن التاسع عشر ... نجد العصيان يمضي فتياً شاباً متصاعداً بخطى الشباب المطمئن الثابتة المتئدة نحو تحقيق أهدافه وغاياته بعد أن حافظ على مكتسباته الماضية.
وحين أقول القرن التاسع عشر فإنني لا أمارس خبط عشواء ... ولكن أستقي ذلك من ردود الأفعال ، وخطط المجابهة والمعالجات ، والتصريحات والبيانات الصادرة من عديد القيادات التابعة والمحسوبة على النظام . وكذلك ما يرشح عن الأجهزة الدعائية والإعلامية المشار إليها من أدبيات مثيرة للغثيان لاسيما حين تحاول إستعادة رداء الدين وتكفير أهل العصيان ووصفهم بالملحدين ..... ودون أن يدرك هؤلاء المعربدون خلف ستار الدين أنهم بعد الذي خبرهم فيه الناس من فساد وسرقات وتكالب على الأموال والملذات ؛ فإن إبليس نفسه يصبح مقارنة بهم شيخ تقي صالح وأمين. العصيان المدني لا يقاس نجاحه بنسب مئوية ... فهو في كل الحالات ناجح طالما نجح مدبروه في طرحه وأصبح على بساط التداول بالنقاش . حديث هذا عن فشل الإضراب بنسبة 100% أو ذاك الذي يحدد نجاحه بنسبة 10% .. وهؤلاء الذين أمسكوا بنسبة المليون % (وهي غير موجودة في علم الإحصاء أصلا) ....... مثل هذه التقديرات بنسب مئوية في حينها يغيب عن ذهنها جوانب معنوية وتصدعات تحدث في الأساسات وتابوهات تختفي وهيبة تتناقص وخوف جمعي ينزوي.
فكرة العصيان لم تنضج بعد في أذهان العامة .... وقد إتضح من خلال المداخلات في وسائط المعلوماتية ، أن قطاعات كبيرة من الشعب لا يفهمون جيدا ثمار ومآلات العصيان .. وكانوا يظنون أنه سيحدث هرجاً ومرجاً ... ويؤدي إلى إسقاط النظام القائم ف صبيحة اليوم التالي. وهكذا مضى البعض إلى الظن بأن العصيان فشل لمجرد أنه لم يسقط النظام القائم من فوره وساعته.
أظرف ما جاء في ظلال العصيان أن أحدهم ضرب مثلاً بآثار العصيان ونجاحه وتأثيره على النظام القائم بذلك الرجل كييف الشاي الذي توقف فجأة عن إحتساء الشاي .... فظل يهلوس بأكواب الشاي أياما عديدة . ويقول للناس من حوله : أنا لي كذا وكذا ما شربت شاي الصباح ولا شاي الفطور ولا الضهر ... ولا حق بعد الغداء ولا حق العصر ولا خق المغرب ولا حق العشاء . أها الجاني شنو ؟ .. ما جاني شي ! فقال له أحد أصحابه : - نان إنت قايل عدم شراب الشاي ماشي يقتلك؟ ..... هو بس خلاك مجهجه وتلهله وتهضرب صاحي .
إذن نفهم أن العصيان المدني هو موجات متتالية ، وفعاليات متصاعدة يوما عن الآخر ، تدفع السلطة إلى حالة من إنعدام الوزن ، وحتما ستسهم جميعها بنهاية المطاف في تحقيق أهدافها المرجوة المعلنة حتى يومنا هذا. وأن مجرد طرح فكرة وإمكانية ممارسة الشعب لحق العصيان المدني تعتبر نجاحا في حد ذاتها .... ومقياس هذا النجاح أن مصطلح (عصيان مدني) قد أصبح اليوم على كل لسان. وأنه بقدر ما يفلح القائمون على العصيان الحفاظ على زخمه وحسن إختيار توقيته في مستقبل الأيام . كل ما أدى ذلك إلى إستيعاب عامة الشعب لمقاصده ، وآثاره الممتدة حتى الوصول بالنظام القائم إلى مرحلة الإنهاك التام. هناك شائعات قوية بأن الشبكة العنكبوتية (إن صـح التعبير) تدبر لعصيان آخر يكون تاريخه الأول من يناير 2017م ؛ فيكون بذلك التحدي الأوضح بين قدرة هذه الشبكة على إبقاء الشعب تحت البطانية في هذه الإجازة الرسمية ؛ و قدرة النظام القائم على حشد أتباعه وإخراج الناس من بيوتهم للمشاركة في الإحتفال بعيد الإستقلال من عدمه ....
في عصيان 19 ديسمبر : جاءت النتائج حيث أفلح هذا العصيان في (إخراج) الحكومة وأتباعها إلى الشارع .... واتخذ الإحتفال بمناسبة إعلان الإستقلال من داخل البرلمان سمة حكومية لم تكن من عاداتها قبل هذا.
مرحلة الإنهاك التام التي (أعتقد) أن القائمين على النظام يخشونها ؛ تتمثل في تكلفة وقدرة هذا النظام على تبييض وجهه أمام الشعب ... ومدى تحمل الإستنزاف المالي الذي هو بصدده .. وحيث أنه من غير المنطقي أن يتمكن النظام من تمويل خطط مكافحة العصيان على المدى الطويل . سواء أكان هذا التمويل من خزينة الحزب أو خزينة الدولة أو حتى من خزائن أقطابه وقادته. لجوء النظام الحاكم إلى خزينة الدولة على سبيل المثال سيعني زيادة الإنفاق الحكومي على مجالات بعينها غير منتجة إقتصاديا ؛ هي الأمن والقوات النظامية وأعضاء الحزب ومنتسبيه وأبواقه الدعائية ومناشطه الجماهيرية .. إلخ ... وحيث أن هذا الإنفاق لايقابله إنتاج إقتصادي يغطيه . فهو سيكون على حساب قطاعات أخرى. وحتما ستتأثر به قيمة الجنيه السوداني في مقابل الدولار ........ والمسألة معقدة متشابكة ستؤدي محصلتها النهائية إلى غلاء مفرط لن يحتمله الموظف والعامل العادي الذي ينتظر راتبا شهريا ثابتا نهاية أول كل شهر.
وليت الأمر يتوقف عند ذلك ..... ولكن العصيان المدني يأتي اليوم في ظل محدثات ثورة المعلوماتية وقنوات التواصل .. يأتي ممتد الجناح . وبما يحرم النظام الحاكم من أهم أسلحته الإستراتيجية التي يعول عليها في الحفاظ على هيبته وإستمراره ...... لقد تدربت وتمرست الأجهزة الأمنية وغيرها على إستراتيجيات وتكتيك مواجهة المعارضة في حالة إنعقاد وتدبير .... أو حالة خروج في تظاهرة إلى الشارع ... أو في حالة إضراب تدعو له النقابات كلها أو بعضها ؟؟؟ أو حتى حدوث تمرد مسلح .. أو غزو على غرار العدل والمساواة أو المرتزقة ........ هذه أحوال يكون فيها العدو والخصم واضحاً أمام الأجهزة الأمنية والنظامية ... وتكون قياداته معروفة مرصودة .. أو بالإمكان إعتقالها بعد فترة حتى في حالة إختبائها. ولكن الحاصل في حالة العصيان الذي تشهده البلاد خلال هذه المرحلة من تاريخ شعبها .. الحاصل أنه لا يوجد أثر لقادته ومدبريه . فكيف (يشتغل) الأمن والأجهزة النظامية في هذه الحالة؟ ...... هل يصطادون ويقاتلون ظـلالاً من الإنـس ونفـرٌ من الجـن؟
حجم الكتلة الجماهيرية المشار إليها أعلاه هي من الكثرة والتعددية والهلامية والتداخل الهيكلي ، والفئات العمرية المتنوعة ، ومواقع الإقامة المتناثرة في الداخل والخارج ؛ بحيث يستعصى على أعتى الأجهزة الأمنية أو الإعلامية بمقاييس العالم المتقدم محاصرتها والحد من نموها وإتساع رقعتها. فما بالك بأجهزة هي حبيسة دولة محاصرة متخلفة تكنولوجياً وفقيرة؟
والذي أظنه أن قيادة هذا العصيان غير محددة المعالم والوجوه والتوجهات .... فهي غير معينة ولا منتخبة .... بل القيادة فيه مفتوحة أبوابها على مصراعيها .. فكل من يمتلك (رصيد) في موبايله الذكي هو قائد .... وكل من يكتب بسطر أو سطرين يمكن إعتباره أحد أركان العصيان .. وكل من يساهم بمشاركة أوتعليق أو لايــك هو فاعل فيه .. وهؤلاء يبلغ تعدادهم الملايين. ومن رابع المستحيلات متايعتهم ، وإعتقالهم ورفعهم إلى بكاسي والزج بهم في المعتقلات.
لقد خطط النظام القائم و (نجح) إلى أبعد مدى في حرمان الأحزاب التقليدية من مصادر تمويلها المالي . فكان لذلك الأثر الحاسم في إبعادها عن الساحة قبل أن تبعد كوادرها المساومات والإغراءت التي قدمها لهم النظام الحاكم للإنسلاخ عنها. وبالطبع . فقد كانت تلك مرحلة من مراحل توطيد دعائم الحكم صالحة لزمان ومكان له ثوابته وحاكميته الرافدة والجغرافية ....... ولكن المتغيرات التي فرضتها ثورة المعلوماتية إنحازت إلى قوى شبابية أخرى لم يكن النظام القائم يضعها في حسبانه كأداة للتغيير والثورة الشعبية أو حتى بما يمكن ان يصيبه باللهاث على أقل تقدير. وهي قوى لا تحتاج إلى تمويل وميزانية كتلك التي يطلبها حزب الأمة أو اشيوعي أو الخديوي الأصل .. إلخ لتدبير إنتفاضة شعبية. وكارثة النظام القائم بوصفه شموليا ؛ أنه لايرضى الإستماع أو الإصغاء إلى من يبذل إليه مجهود النصيحة لوجه الله والوطن فيسارع إلى تصنيفه في خانة المثبطين . ويكتفي بالإستماع فقط إلى ذوي الألسنة الحلوة التي تمدحه وتقطر في فمه وأنفه وأذنيه شيرة السكر وعسل النحل ؛ ترغب من ذلك المداهنة والنفاق . والحصول على مكاسب مالية ومعاملات تفضيلية. والمتوقع أن أيام العصيان لن تنتهي ..... والوقت يمضي في مصلحة شباب العصيان ما لم يقتنع النظام الحاكم أنه ينبغي عليه المسارعة بإستحداث تغييرات وتعديلات جذرية تضع البلاد في الطريق الديمقراطي الصواب الفاعل بعيداً عن محاولات التسويف والتلاعب بالكلمات ... خاصة وأن النظام الحاكم قد فقد ورقة " الدين" إلى الأبـد . ولم يعد بإمكانه المناورة والمزايدة على الدين بأية حال من الأحوال.
وإذا كانت هناك من نصيحة مستعجلة .. فلا أفضل من تخلي الرئيس عمر البشير عن حزب المؤتمر الوطني واللجوء إلى القوات المسلحة بوصفها الامن الوحيد لوحدة وسلامة الشعب .... وبما يؤدي لإعلان رئيس وزراء عسكري من داخل الثكنات لا علاقة له بحزب المؤتمر الوطني ؛ تكون مهمته تشكيل حكومة عسكرية صـرفة لتسيير البلاد ومنع تدهور الحالة الأمنية ...... وإبعاد حزب المؤتمر الوطني عن السلطة تماماً وهائياً مع السماح له ولغيره من أحزاب بممارسة حزبية سياسية كاملة . والسماح كذلك بحرية تكوين أحزاب دون إملاءات حكومية .... ومنح الحرية كاملة للتعبير والعمل الصحفي والإعلامي طوال فترة إنتقالية كافية ؛ تمهيداً لإعلان إجراء إنتخابات حرة نزيهة يقول فيها الشعب كلمته. ثم يتحول مجلس الوزراء العسكري إلى مجلس رقابة عسكري يستمد سلطاته من الشعب إلى حين الفراغ من الإتفاق على دستور دائم للبلاد بما يرضي أهل السودان جميعهم بقدر الإمكان.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة