وجهة النظر الاستقلالية في معرض تعليقه على اقتراح الهلالي بشأن التاج الرمزي المؤقت قال الوفد الاستقلالي إن التاج معناه السيادة في نظر الناس ولا يمكن أن يفسروه بغير ذلك. وأشار الوفد إلى أنه طالما أن الناس قد نفروا في الماضي من السيادة التي جاء بها صدقي في عام 1946، فليس بإمكان الوفد أن يعود الآن ليقول للناس جئناكم بسيادة مصر على السودان. ثم اقترح الوفد الاستقلالي تسوية مسألة السودان على الأسس التالية: 1- التفكير في حل آخر غير التاج الرمزي المؤقت كأن يعاد النظر في اقتراح تكوين لجنة ثلاثية من مصر وبريطانيا والسودان لتعمل مع الحاكم العام وبذلك تطمئن مصر على تنفيذ إجراءات الحكم الذاتي وتحل العقدة القانونية التي تورطت فيها مصر يوم أصدرت حكومة الوفد تلك المراسيم المشهورة. وسبق لنا القول ان اقتراح تكوين لجنة ثلاثية الذي طرحه الوفد الاستقلالي كان قد أُثير أصلاً إبان مباحثات خشبة - كامبل في 6-28 مايو 1948. فقد نوقشت في تلك المباحثات فكرة إنشاء لجنة مصرية - بريطانية - سودانية دائمة للإشراف على تقدم السودانيين نحو الحكم الذاتي. 2- أن توافق مصر على دستور الحكم الذاتي الذي أرسل إليها ولها أن تقترح أي تعديلات تراها. 3- أن يتم إجراء الاستفتاء عن طريق الحكومة السودانية بعد أن تكفل له الحرية التامة، وأن يكون الاستفتاء على وجهين: الاستقلال أو الارتباط مع مصر. 4- يجب أن تتم في مرحلة الحكم الذاتي مفاوضات مع مصر لتنظيم مياه النيل الحاضرة والمقبلة نظراً لحاجة السودان الماسة للتوسع الزراعي والتقدم الاقتصادي. وكان الهلالي قد استشهد بالمثل المصري «الميه ما تفتش على العطشان» عندما تحدث الوفد الاستقلالي عن نفاذ حصة السودان من مياه النيل. 5- في حالة استقلال السودان فإن الحكومة السودانية ستدخل على الفور في مفاوضات مع مصر لتحديد العلاقات والمصالح المشتركة بين البلدين، لأن الاستقلاليين أحرص ما يكونون على قيام التعاون وتبادل الثقة مع مصر. وذهب الوفد الاستقلالي إلى حد القول بأنه إذا ترتب على الاستفتاء اختيار الاستقلال فإن السودان سيدخل مباشرة في مفاوضات مع مصر لإقرار نوع الاتحاد الذي يربط بين البلدين كما اقترح في الوثيقة التي ائتلفت عليها الأحزاب السودانية في 3 أكتوبر 1945. وسبقت الإشارة إلى أن الأحزاب السودانية قد اتفقت قبل سفر وفد السودان إلى مصر في 22 مارس 1946 على تفسير للبند الأول من الوثيقة. ويقضي هذا التفسير بأن تحدد الحكومة السودانية الحرة نوع الاتحاد مع مصر. وحري بالذكر أنه بالرغم من أن الحزب الجمهوري الذي كان يدعو أيضاً لاستقلال السودان التام لم يكن ممثلاً في الوفد الاستقلالي، إلا أن رئيس الحزب محمود محمد طه قال إن الوفد «أبرز شخصية السودان في الدوائر المصرية الرسمية والشعبية، ونال إعجاباً أقوى مما ظفرت به حتى الآن أي هيئة، وأنه لفت نظر المصريين إلى ما لم يشاءوا أن يلتفتوا إليه من قبل وهو أن للسودان شخصية يجب أن تحترم».
الاستقلاليون يرفضون مقترحات الهلالي بعد عودة الوفد إلى السودان في 10 يونيو 1952 عُرضت مقترحات الهلالي على السيد عبدالرحمن المهدي ونوقشت في فصائل الحركة الاستقلالية. وقد خلصت الحركة إلى رفض اقتراح الهلالي بالاعتراف بالتاج الرمزي المؤقت خلال الفترة الانتقالية التي تسبق تقرير المصير لأنه من مصلحة الطرفين ألا تتأثر علاقة البلدين بإجراء مؤقت قد يؤدي إلى كثير مما يضر مصر والسودان وإلى كثير من عدم الأمن والاستقرار. واستقر رأي الحركة الاستقلالية كذلك على التقدم للهلالي باقتراح لإيجاد علاقة قانونية بين مصر والسودان خلال الفترة الانتقالية التي تسبق تقرير المصير. وفي هذا الصدد أيدت الحركة الاستقلالية الاقتراح الذي تقدم به وفدها والذي يقضي بتشكيل لجنة ثلاثية من السودانيين والمصريين والإنجليز لتعمل مع الحاكم العام خلال تلك الفترة. وأشارت الحركة الاستقلالية إلى أنه إذا قُبل المبدأ فيمكن الاتفاق على تكوين اللجنة واختصاصاتها. ولكن حكومة الهلالي لم تبق في الحكم لتتلقى رد الحركة الاستقلالية. إذ استقالت في 28 يونيو 1952 وخلفتها في 2 يوليو 1952 حكومة جديدة برئاسة حسين سري.
سري يدعو لمواصلة التفاوض في 7 يوليو 1952 قال سري لكريسويل الوزير المفوض بالسفارة البريطانية في القاهرة إن مسألة السودان أصبحت صعبة نظراً لرفض الحكومة البريطانية ممارسة النفوذ الكبير الذي تحظى به على السودانيين (يقصد الاستقلاليين) لكي يوافقوا على لقب الملك خلال الفترة الانتقالية لحين تقرير المصير. وأضاف سري أن حكومته وأي حكومة أخرى تقبل بحق السودانيين في اختيار مستقبلهم، ولكنه قال إنه مهتم بمسألة الفترة الانتقالية وأعرب عن أمله في أن تساعد السلطات البريطانية في السودان بشكل أكثر من ذي قبل حول هذه المسألة المحدودة. أجاب كريسويل بأنه قد تمت مناقشة هذه المسألة خلال الأشهر القليلة الماضية ولا يحتمل أن توافق الحكومة البريطانية على فرض أية ضغوط أو نفوذ على السودانيين بهذا الصدد، فالقضية يجب أن تترك ليقررها السودانيون بأنفسهم. وأبدى كريسويل إستعداد بلاده لبذل قصارى جهدها لتشجيع السودانيين (يقصد الاستقلاليين) على استمرار الاتصالات مع مصر لمناقشة كافة القضايا بشكل مفتوح وبصراحة. وانتقد كريسويل استمرار العزف على مسألة لقب الملك ووصفه بعدم الواقعية، وقال لسري إنه إذا أراد إحراز أي تقدم فإنه ينبغي عليه أن يركز التفكير على المسألة الأكثر عملية ألا وهي التعاون بين مصر والسودان في المستقبل. ورد سري بأنه يرغب في النظر في مسائل أخرى كإصدار دستور للسودان في المستقبل. ولكنه قال إن مسألة لقب الملك أصبحت جزءاً من الدستور المصري ولذلك فهي مهمة لتحقيق أي تقدم. ويبدو أن حسين سري قد أخذ بنصيحة كريسويل. ففي 8 يوليو 1952 اتصل محمد هاشم وزير الداخلية المصري بالسيد عبدالرحمن المهدي وأبلغه دعوة مصر الرسمية لزيارتها قبل بدء الرحلة التي كان يزمع القيام بها إلى سويسرا. على أية حال حُدد يوم 26 يوليو 1952 تاريخاً لبدء زيارة السيد عبدالرحمن المهدي لمصر. ولكن حسين سري استقال في 22 يوليو 1952 وعُهد إلى الهلالي بتشكيل حكومة جديدة. ولم يبق الهلالي في الحكم أكثر من 18 ساعة. ففي صباح يوم 23 يوليو 1952 استولى الجيش على السلطة في مصر. ولم تعد مسألة التاج المصري ذات أهمية. فقد قبلت حكومة ثورة 23 يوليو بالفصل بين مسألتي السودان والجلاء عن مصر، وأسقطت المطالبة بالسيادة على السودان، واعترفت بحق الشعب السوداني في تقرير مصيره. ولكن وكما سيرد، استمر الضغط الأمريكي على الحكومة البريطانية لتسوية مسألة السودان.
الدور الأمريكي في إبرام اتفاقية الحكم الذاتي وتقرير المصير للسودان 1953 لم يكن اتفاق الأحزاب السودان في 10 يناير 1953 ووقوفها خلف المفاوض المصري هو العامل الوحيد الذي عجل باتفاق الحكومتين المصرية والبريطانية بشأن الحكم الذاتي وتقرير المصير للسودان، إذ لعبت الولايات المتحدة الأمريكية أيضاً دوراً مهماً في هذا الصدد. وقد سبقت الإشارة إلى أن الحكومة الأمريكية كانت مهتمة بنجاح المفاوضات المصرية - البريطانية بشأن السودان حتى يتفرغ الجانبان لبحث مسألة جلاء القوات البريطانية عن مصر والترتيبات الغربية بشأن الدفاع عن الشرق الأوسط. وكانت هذه الترتيبات تهدف إلى ملء الفراغ الذي سينشأ عن الانسحاب البريطاني من منطقة الشرق الأوسط، ولمنع النفوذ السوفيتي من الامتداد إليها ضمن سياسة احتواء الشيوعية. ولعل في هذا ما يكشف السبب الحقيقي لمعارضة الحركة الشيوعية السودانية لاتفاقية الحكم الذاتي وتقرير المصير للسودان. كانت الحكومة الأمريكية تتابع المفاوضات المصرية - البريطانية بشأن السودان من خلال سفيرها في القاهرة جيفرسون كافري الذي كان على اتصال بالطرفين ويبدو أن الحكومة الأمريكية كانت قد تلقت من قيادة ثورة 23 يوليو إشارات مشجعة بشأن مشاركتها في الترتيبات الغربية للدفاع عن منطقة الشرق الأوسط. فقد تطرق محمد نجيب في رسالة بعث بها في 10 نوفمبر 1952 إلى الرئيس الأمريكي ايزنهاور إلى إمكانية قبول مصر المشاركة في نظام دفاعي مع الولايات المتحدة وبريطانيا وغيرها من القوى الحرة في إطار الأمم المتحدة بمجرد التوصل إلى اتفاق بشأن الانسحاب البريطاني من مصر. وفي نفس الرسالة عبّر محمد نجيب عن رغبة مصر في الحصول على مساعدات اقتصادية وعسكرية أمريكية. ولا جدال في أن الحكومة المصرية كانت مدركة تماماً أثناء مفاوضاتها مع بريطانيا بشأن السودان للدور الذي يمكن أن تلعبه الحكومة الأمريكية في حمل الحكومة البريطانية على التخلي عن المواقف المتشددة والتوصل إلى حلول وسط بشأن المسائل المختلفة عليها. ففي 23 ديسمبر 1952 وفي محاولة لكسب التأييد الأمريكي للمواقف المصرية وللضغط على بريطانيا، استدعى محمد نجيب السفير الأمريكي وأعطاه نسخة من المذكرة المصرية التي سلمت للسفير البريطاني في 22 ديسمبر 1952. وقد انتقدت هذه المذكرة تأخر الرد البريطاني على مذكرة الحكومة المصرية المؤرخة 2 نوفمبر 1952 وقلة اجتماعات الجانبين المصري والبريطاني وتباعد فترات إنعقادها. وخلال نفس اللقاء مع السفير الأمريكي وجه محمد نجيب انتقاداً شديد اللهجة للموقف البريطاني بشأن السودان. فقد قال نجيب إن بريطانيا تراجعت عن موقفها السابق، وأنه إذا كان الأمر كذلك فلن تكون هناك تسوية، وسيكون هو من جانبه مضطراً للعودة للمطالبة بوحدة وادي النيل تحت تاج مشترك. وأبلغ نجيب السفير الأمريكي أن الحكومة المصرية لا تستطيع التراجع بشأن سلطات الحاكم العام المتعلقة بالجنوب. ويمكن أن نلمس الضغط الأمريكي على الحكومة البريطانية لتجاوز الخلاف حول مسألتي الجنوب والسودنة من خلال ما نقله السفير البريطاني في واشنطن إلى حكومته في أول فبراير 1953 أي قبل أيام من توقيع اتفاقية السودان. فقد قال السفير البريطاني إن الحكومة الأمريكية مندهشة من موقف الحكومة البريطانية وزجها بنفسها في صراع مع الحكومة المصرية حول السودنة وجنوب السودان طالما أن المبادئ الأساسية قد تم الاعتراف بها. وقال السفير البريطاني كذلك إن الحكومة الأمريكية ترى أن التحفظات البريطانية حول الفترة الانتقالية ليس لها وزن يذكر في مقابل تسوية مسألة الجلاء مع مصر. وأضاف السفير أن الحكومة الأمريكية حذرت من أنه إذا استعدت بريطانيا محمد نجيب وهو من خيرة القادة المصريين، فإن ذلك سيرتب أثاراً خطيرة على المصالح الغربية في منطقة الشرق الأوسط.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة