بعد أن حط طائرُ الرخِ القادم من بلاد العم سام رحاله على أرض جزيرة العرب ومهبط دينهم الإسلامي، وجد في إستقباله، والدهشة تلجمه، حشوداً ضخمة من المستقبلين وصنوفاً عدة من الأكل والشراب، فملأ معدته بما لذ وطاب، وحمل بين جناحيه الكنوز والمليارات، ثم قفل عائداً إلى دياره والنشوة تملؤه. وحتى لا يلوث أرضه، لم ينسى طائرُ الرخ وهو يفرد جناحيه الكبيرين إستعداداً لرحلةالعودة، أن يفرغ مافي معدته من فضلات على رمال أرض الخليج، فتغير لون المكان وتعفنت أجواؤه! ما يحدث الآن في منطقة الخليج من مقاطعة سعودية إماراتية بحرينية وغيرها لدولة قطر لهو مشهدٌ مؤسف تتفرج عليه كل الأمة العربية والإسلامية، بل هو واقع مرير تعيشه شعوب دول منطقة الخليج والتي يجمعها جسم واحد يسمى "مجلس التعاون الخليجي" ناهيك عن رابطة أقوى وحبلٌ متين أُحكم رباطه قبل أربعة عشرة قرنٍ من الزمان. إنه لمن المؤسف حقاً أن تتفجر الخلافات بين هذه الدول الإسلامية الشقيقة في شهرٍ فضيلٍ أُنزل فيه كتاب كريم يدعو إلى الوحدة والترابط ويُعظم من قيم التسامح والسلام وينبذ الفرقة والخلاف. لم نكدْ نودع العشر الأوائل من شهر الصيام وندلف إلى عشرٍ أخر، ونحن أكثر قوة بقيم عقيدتنا السمحة وسماحة ديننا الحنيف، إلا وعصفت بأجوائنا رياح القطيعة والشقاق، فانتهكنا بأنفسنا حرمة هذا الشهر العظيم. لم تعي الشعوب العربية والإسلامية الدرس بعد وما زالت تقف عاجزة تماماً عن كبح جماح الصلف الأجنبي والهيمنة الغربية على مصائرها بعد أن أصبح الحكام والقادة والملوك مطايا وتوابع بل وصاروا كالإماء، دوماً في إنتظار السادة، عندما يأتي المساء! ما يحدث اليوم على المسرح الخليجي لا يبشر بخير! أخشى أن الخليج الآن موعودٌ بتسونامي عاصف يزلزل إستقرار دوله ويؤثر سلباً على شعوبه ولربما يُعيد تشكيل خارطته الجيوسياسية في غفلة من الزمان إن لم يفق الجميع من سباتهم العميق. لا تتناسب خطوات قطع العلاقات مع دولة قطر مع تلك المبررات التي ساقتها المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة ومملكة البحرين وغيرهم من باقي الدول، إن لم يكن الأمر معدٌ مسبقاً وحان أوانه. فقد نفت قطر مبكراً تلك التصريحات التي نسبت لأميرها تميم وكانت ضربة البداية لهذه المقاطعة الجماعية. سبق ذلك هجوم منظم على دولة قطر من خلال مقالات عديدة كتبت في الصحافة الأمريكية لتسويق فكرة دعم قطر للإرهاب وتمويله. كما أن المراسلات المتبادلة بين سفير دولة الإمارات العربية المتحدة بواشنطون وإحدى المنظمات اليمينة الموالية لإسرائيل والتي كشفت عنها تسريبات البريد الإلكتروني للدبلوماسي الإماراتي ، تشير إلى تمويل الإرهاب من قبل كل من قطر والكويت. إذا صحت الرواية التي تشير إلى طلب ساكن البيت الأبيض الجديد مبلغاً ضخماً من المال من السعودية والإمارات وقطر مقابل الحضن الأمريكي الآمن ثم تعنت قطر عن دفع ما طلب منها، فإن قراءة المشهد من خلال تلك المعطيات يعطي صورة واضحة لهذا السيناريوالخليجي المؤسف. وعليه، يمكن بسهولة رفع بصمات الإدارة الأمريكية من على مسرح الأحداث. وبالرجوع إلى حملة ترامب الإنتخابية وعدم إخفائه لمشاعر الكراهية تجاه المسلمين أينما كانوا وإستحقاره لدول الخليج وإعتبارها حاضنة لأموال وثروات ضخمة لا تستحقها وأن عليها دفع حصة مقدرة لسيدتها أمريكا مقابل أمن وإستقرار المنطقة والحفاظ على عروش وكراسي الحكم فيها، كل ذلك يدفعنا للقول بأن المحرك الأساسي للتحرك الأمريكي في المنطقة هو جلب أموال الخليج، بأي صورة كانت، والعبور بها إلى الأطلسي لتوضع في مكانها الصحيح ومرقدها الطبيعي. ليس من مصلحة الولايات المتحدة الأمريكية أن يشتعل الخليج، فهي تعلم أن النزاعات والحروب تشكل بيئة صالحة لنمو الجماعات المسلحة والتي يمكن أن تكتوي المصالح الأمريكية بنارها وهي التي ما زالت تداوي جرح كبريائها من ضربة القاعدة التي طالت العمق الأمريكي. سوف تراقب الإدارة الأمريكية المشهد عن كثب وتصدر بيانات التهدئة وتطلب من الجميع ضبط النفس والإحتكام إلى صوت العقل، ولكن سوف لن يتم ذلك دون مقابل! سوف لن تتورع أمريكا في عهدها الجديد من طلب حافزٍ مجزٍ نظير توسطها لدى الفرقاء لحل الأزمة سلمياً! فيما يتعلق بقطر، سوف تأخذ منها أمريكا بالشمال ما لم تقدمه قطر باليمين حين رفضت دفع نصيبها من جزية الحماية (إذا صحت فرضية الدولارات التريليونية) وبذلك تكون قد إنتشلتها من عزلة دولية محكمة تكاد تخنق أنفاسها. أما بالنسبة للسعودية والإمارات والبحرين فيمكن حلب ضروعها في أي وقت يفكر فيه الملياردير الأمريكي ترامب ملء أي فراغ في خزانة دولته، مع التخويف بإمكانية التدخل الإيراني في شئون تلك الدول مساندة لقطر. إزاء كل هذه الأحداث، تُخرج إسرائيل (والتي كانت العدو الأول للأمة العربية والإسلامية) لسانها للعرب إستهزاءً وسخريةً وهى تتفرج على (أعداء الأمس) يمسك بعضهم بتلابيب بعض. إنه لخزيٌ وعار على أمة الإسلام أن يكون المسلم هو عدو اليوم وأن تنصرف الشعوب العربية والإسلامية عن عدوها التاريخي "دولة الكيان الصهيوني" وأن توجه فوهات البنادق نحو صدور أبناء العمومة، وهو ما دفع مايكل أورين، سفير إسرائيل السابق لدى واشنطون إلى التغريد قائلاً "بأن هناك خط جديد يرسم في رمال الشرق الأوسط فلا إسرائيل ضد العرب بعد اليوم بل إسرائيل والعرب ضد الإرهاب الذي تموله قطر". إذن، ماذا يحدث لو لم ينجح سيناريو التهدئة بين الفرقاء ووصلت الأمور إلى ما لا تحمد عقباه؟ ليس هناك مخرج آخر سوى التصعيد وخنق قطر وعزلها تماماً تمهيدا لتنفيذ سيناريو تغيير نظام الحكم القائم والإطاحة بالأمير الحاكم وخلق واقع جديد في قطر يناسب "العباءة السعودية" و"القُطرة الإماراتية" وبلا شك "الخزانة الأمريكية". أين هم حلفاء قطر؟! للأسف، لا يعطي الواقع نقاطاً كثيرة لصالح تلك الدولة الصغيرة بمساحتها والكبيرة بمواقفها، فقد قاد الأمير محمد بن سلمان وفداً كبيراً يمم به شطر روسيا االقيصرية في خواتيم شهر أبريل الماضي وعاد منها بنتائج لا يمكن أن تحسب لصالح قطر! وقال الأمير السعودي في مقابلة له مع صحيفة "الواشنطون بوست" أن هدف بلاده هو إقناع روسيا بأن لا تضع جميع أوراقها خلف إيران وأن المملكة تعد رهاناً أفضل من طهران في المنطقة، على حد قوله. وهذا التصريح ربما يحمل في طياته تحييداً لروسيا من النزاع المحتمل في المنطقة إذا فكرت بأن تكون طرفاً في الأزمة. أما تركيا "القوية" في عهد رجب طيب أروغان فكان إسهامها "الحزن" على ما صارت إليه الأمور في منطقة الخليج ولم تسرب تطمينات إلى قطر بأنها ما زالت معها في خندق واحد. هل تغرس الخرطوم خنجراً في ظهر علاقتها بالدوحة؟ تضع هذه الأزمة الخليجية الحكومة السودانية في محكٍ خطير للغاية، ومطلوب منها أن تكون في غاية الدقة والمسؤولية وهي تدلي بدلوها في هذا الأمر. لقطر أيادٍ بيضاء كثيرة على السودان وشعبه لا ينكرها إلا من كان به قذي في عينيه، ولكن مكالمة هاتفية قصيرة يمكن أن تقلب المواقف وتدفع بالسودان نحو طريق ملؤه الشوك والحصى، وليس ببعيد موقف السودان من حرب الخليج الأولى ودعمه العراق ضد الكويت وما آلت إليه الأمور بعد ذلك، كما أن قرار السودان قطع علاقاته مع إيران بإيعاز سعودي ما زال حبره لم يجف. لقد ولى زمان العنتريات والإسلاميات وصعدت أرواح الشهداء إلى بارئها ولم تعد "أمريكا روسيا قد دنا عذابها" فهناك واقعٌ جديد ومتغيراتٌ كثيرة وتنازلات أكثر! ولا ننسى أن البلاد موعودة بعد أيام قلائل بشهر عسل مع إدارة ترامب لا ندري هل سيتغير تاريخه أم لأ فقد وُزعت رقاع الدعوة قبل زمن طويل!! فلمن تكون الغلبة يا ترى، معسكر الكرامة والمواقف والشهامة، أم فصيل النكوص والتحلل من المبادئ والردة والمهانة؟!
مجدي مكي المرضي الخرطوم 10 رمضان 1438 هجرية الإثنين 5 يونيو 2017 ميلادية
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة