ترددت في هذا العنوان كثيراً بسبب مصطلح ( النُخب ) لأن مصطلح ( النُخبة ) من المصطلحات المعقدة ، كما يقول علماء علم الإجتماع بداية من الكلمة نفسها هل تكتب بصيغة الجمع ( نُخب ) أم بصيغة المفرد ( نُخبة ) عموما قد يشير المصطلح إلي قلة متميزة في تكوين أو نشاط ما ، سياسي ، إقتصادي ، مهني ، عسكري ألخ ....أو إلي مجموعة مهيمنة في تنظيم يصل مستواه الأعلى كالدولة ، فنقول النُخبة الحاكمة في الدولة ، وفي داخلها نجد النُخبة المهيمنة ، ونُخب أخرى ، وفي الأحزب ، نجد النخبة القائدة ونُخب أخرى غير قائدة ، لكن لها نشاط مرموق في الأداء السياسي ، و كما يشير أحد هؤلاء العلماء فإنه توجد في وقت واحد نُخبة قائدة ( بالمفرد ) ونُخب عديدة غير قائدة ( بالجمع ) أما الأحزاب التقليدية فهو مصطلح شاع في أدبيات السياسة السودانية ، ويقصد به بعض الأحزاب التاريخية التي تأسست مع بدايات الحركة الوطنية ، وهما حزبا الأمة ، والإتحادي الديموقراطي ، هذان الحزبان تشكلت قاعدتهما من كيانات دينية تختلف في توجهاتها الدينية و الوطنية ، فحزب الأمة يشكل قاعدته الأنصار ، وهم أتباع الثورة المهدية ، أما الحزب الإتحادي الديموقراطي الذي جاء نتاج لإندماج حزب الشعب الديموقراطي - وهوحزب تشكل الطريقة الختمية قاعدته - مع الحزب الوطني الإتحادي الذي كان مؤيديه من طبقة الموظفين والتجار ( الطبقة الوسطى ) وكان يدعو للإتحاد مع مصر ، فيما كان الأول ( حزب الأمة ) يدعوللإستقلال . ورغم أن القاعد ة الجماهيرية التقليدية هي التي تشكل أساس هذان الحزبان ، فإن نُخبة من المتعلمين والمثقفين كانوا في طليعة المؤسسين ، فقد صاحب قيام الحركة الوطنية نشاط سياسي وثقافي وأدبي مكثف قاده المتعلمون والمثقفين ، وقد تبلور هذا النشاط في قيام عدد من الجمعيات الأدبية التي كان لكل منهما توجه فيما يخص النضال ضد المستعمر ، وتقرير مصير البلاد ، وضمت عضوية هذه الجمعيات والمدارس أبرز الشخصيات في الساحة الأدبية من تلك النُخبة في ذلك الوقت ، وكان من نتيجة ذلك النشاط السياسي والثقافي في تلك الفترة أن أدى إلي قيام وتأسيس الأحزاب الوطنية المعروفة ( ليس فقط الحزبين المذكورين ) . في فترة ما بعد الإستقلال ومع إننتشار التعليم النظامي إتسعت قاعدة المتعلمين في هذه الأحزاب ، ومن ثم بدأت تتشكل نُخب جديدة لتتوسع النخبة مع مرور الزمن داخل كل حزب . وبما أن القواعد لهذه الأحزاب تكتسب عضويتها باالطريقة التقليدية في معظمها وليس بالإستقطاب والتجنيد كما هو الحال في الأحزاب العقائدية ، والتي تسمى نفسها بالحديثة ، كمقابل للأحزاب التقليدية ، وليس لأنها تكونت حديثا . ومقارنة بالنخب الموجودة اليوم في هذه الأحزاب نجد إختلافاً وفرقاً كبيرا بينهما ، كما إننا إذا قارنناها بنُخب الأحزاب الحديثة ( الشيوعي – البعث – الجمهوريين ، الجبهة القومية الإسلامية وغيرها ) لوجدنا فرقا كبيراً ، وذلك يعود جزء منه إلي إختلاف طبيعة تكوين الأحزاب الحديثة عن تكوين الأحزاب التقليدية ، فالاحزاب الحديثة تعتمد على الإستقطاب في بناء الحزب أو ما يُعرف بالتجنيد ، كما أن النظريات أو الأفكار أوالأطروحات الجديدة التي تشكل مرجعيتها تتطلب من العضو المستقطب أن يلم بهذه المرجعية إلماما جيدا ، ويتم ذلك من خلال محاضرات ، ودروس و معسكرات ، ويكون مطلوبا من العضو الملتزم بتنمية معرفته عن القضايا في الساحة السياسية والثقافية وغيرها من الأمور ، ولتأهيل عضويتها تهتم الأحزاب العقائدية أو الحديثة ، من خلال برامج يضعها الحزب يتم شرحها في محاضرات لكل العضوية الجديدة فيما يعرف بمدرسة الكادر ، وهكذا نجد أن العضوية التي ستشكل النُخب في الأحزاب العقائدية أو الحديثة فيما بعد يتم تدريبها وتهيئتها لتقوم بدور وتؤدي مهام يكلفها بها الحزب ، ومن ثم إكتسبت أهميتها وأصبح لها دور فاعل في الحزب عكس النُخب في الأحزاب التقليدية التي إكتسبت قدراتها فرديا . وعلى مستوى الوعي الفردي والنشاط السياسي والثقافي اليومي تختلف النُخب في الأحزاب الحديثة عن النُخب في الأحزاب التقليدية حيث يحرص من ينتمون إلي نُخب الأحزاب العقائدية على حضور الندوات والفعاليات الثقافية المختلفة ، والمحاضرات والملتقيات الأكاديمية ، ويعمل الحزب على تبني الكتاب والأدباء وأهل الفن الذين لهم جماهير من المعجبين لتنظيماتهم والترويج لهم في أجهزة الإعلام . ونسبة للطبيعة شبه العسكرية في هذه التنظيمات ، فإن التراتبيه التنظيمية لا يمكن تجاوزها ، كما أن قيادات التنظيم ملمة بقدرات كل عضو من الأعضاء وخاصة من النخبة ، في مقابل ذلك نجد أن من يهتمون بما يجري في الساحة الثقافية والفكرية من نُخب الأحزاب التقليدية قلة ، وقلما تجدهم في ما ذكرنا من تلك الفعاليات ، والأنشطة السياسية والثقافية والأكاديمية فلا يهتمون بكل ذلك النشاط الثقافي والفكري والسياسي الذي يجري في الساحة والذي من المفترض أن يكون أحد مصادر تنمية القدرات للمثقف ، معظمهم لا يقرأ ولا تتعدى حصيلة بعضهم من القراءة في ميادين الفكر والثقافة قراءة الصحف اليومية . كذلك فإن الأداء المهني السياسي لهذه النُخب يعتمد على الإجتهاد الفردي فمثلا إذا كانت هناك أحد القضايا الإقتصادية ، التي يتطلب أن يكون للحزب رأي فيها ، فإنها – أي النخبة الإقتصادية - لا تبادر إلي تحليل هذه القضايا التي تظهر في الساحة وتقديم دراسة للمؤسسات تعتمد عليها في تقييمها للموقف أوإتخاذ قرار سياسيي إذا كان الموقف يتطلب ذلك ، أو إذا كانت هناك قضية سياسية ، من قضايا الساعة ، عادة تكتفي المؤسسة ببيان حول الموضوع ، والمفترض أن يكون هناك دراسة للقضية وتقديمها للأجهزة للوقوف على معلومات لا تظهرها إلا الدراسة . وهكذا يتكون أرشيف لهذه الدراسات في الجوانب المختلفة يمكن الرجوع إليه ، وهكذا الحال في بقية النُخب التي تكون جسم نُخبة الحزب . وفيما يتعلق بالعلاقات الفكرية بين أعضاء هذه النُخب فهي واهية رغم وجودهم في تنظيم واحد ، ولا أدري كيف تتلاقح وتتفاعل الأفكار وعملية التثاقف بين أفراد هذه النُخب ، وتتخد العلاقة صيغة التتنافس الذي يتحول إلي صراع بين المجموعات داخل هذه النخب تؤدي إلي ظهور الشلليات ومراكز القو ى وتهدر الجهود في المؤمرات ، والصراعات . أما على مستوى علاقة المؤسسات الحزبية في الأحزاب التقليدية بهذه النُخب ، فهذه المؤسسات لا تدرك أهمية وجود هذه النخب في الحزب ، فمثلا غياب وجود نُخبة مثقفة أو مفكرة كأحد النخب المهمة في عملية نشر الفكر وتأصيلة لم تكن مصدر إهتمام للمؤسسة الحزبية والأجهزة بدليل غياب تسمية جسم في هياكلها ، - ولو من باب الإدعاء - يهتم بالموضوعات الفكرية ، وهو الذي يُعنى بأدبيات الحزب وفكره وتاريخه ، وعادة يتم التعامل مع الأمر في سياق النشاط الفردي . إن أكبر التحديات الماثلة التي تواجه النخب في الأحزاب التقليدية هو إيجاد قنوات للتواصل مع القواعد من خلال التفاعل مع المشكلات الحياتية التي تواجه هذه الشرائح التي عادة ما تحتاج إلي الوقوف بجانبها . وإن أسوأ ما حل بهذه النخب بعد ظهور الشلليات والتقسيمات والإنشطارات في أحزابها ، آفة التصنيفات التي بموجبها يصنف الفرد بناء على حيثيات ظرفية مع هذه الشلة أو تلك إذا تقارب أو إتفق مع أطروحة شلة من هذه الشلل أو لمجرد عدم إستلطاف هذا الشخص وغيرها من الأفكار البائسة التي تسود في الأجواء غير المعافاة . إن درجة الوعي الذي تمثله هذه النُخب المفترض أن يجعلها قادرة على إدراك دورها الرائد في المؤسسة الحزبية ، وإلتزامها تجاه القواعد خاصة وأن هذه الأحزاب لها قاعدة جماهيرية عريضة ترجو وتتأمل منها الكثير ، وهذا الوعي من المفترض أن يبعدها من الوقوع في براثن الإستقطاب الشللي ، وعليها أن تبادر إلي معالجة الضعف في علاقتها مع المؤسسات الحزبية أو النخب القائدة ، وأن تأهل نفسها لتصبح أكثر فاعلية للقيام بدورها المرجو ، وإلا فإن عدم إثبات نفسها داخل وخارج الحزب يجعل المؤسسة الحزبية غير قادرة على مواكبة ما يدور في الساحة السياسية ، ويظهر عجزها في التعاطي مع القضايا السياسية ويخيب رجاء قواعد هذه الأحزاب فيها .
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة