(أكون في هذا العام قد أمضيت 60 عاماً في الكتابة. وكانت قصتي الأولى "الأصابع" التي نشرتها في " نهر العطبرة" الأدبية في 1957 (ونقتها جريدة الميدان طوعاً) ذات مساس عظيم بموضوع إصابات العمل التي يتطرق إليها هذا المقال. تبدأ "الأصابع" بنبأ يترامى في الورشة أن "أسطى عطية أصابعو انقطعت" بفعل سكين ماكينة ما. فيسرع زملاؤه ليكونوا حوله وقد تمرغت أصابعه في وحل دمه. وكان من الشهود الراوي أسطى عبد الحي. وراح عبد الحي يستعرض في ذهنه مقدار التعويض الذي سيناله عطية بمقتضى قانون تعويضات إصابات العمال. وكان خلال تضريباته يستعرض ضيقه المالي: فالإيجار عليه ما زال ولم يعد يملك جلابية خائلة للخروج من البيت وحاجيات البيت لم تستكمل. ويوحي ذلك بأن عبد الحي ود لو أن أصابعه فدته بما يشبه "بيع اعضاء الجسد" على أيامنا. فقدت نص "الأصابع" إلى يومنا. وهي من أقاليم أحزاني الغبراء وعض بنان الندم الكثير. وربما كانت في مقدمتهن. ومن عثر عليها دعونا له برضا الدارين. انتهى).
تستحق الصحافية رجاء نمر تهنئة شديدة على المقابلة المميزة التي أجرتها مع الدكتور مصطفى مختار حاج النور مدير إدارة الصحة والسلامة المهنية بوزارة الصحة بولاية الخرطوم (التيار 24 إبريل 2017). وقد شفت إجابات دكتور حاج النور على رجاء فرأينا مهنياً ذا ضمير يصدع بالحق لا يلوي. فكشف الدكتور حاج النور إلى أن إصابات العمل وأمراضه في تزايد مقلق. فازدادت وتيرة الإصابات بمعدل 7 إلى 15 في اليوم. والرقم مأخوذ من سجل عيادة ذات دوامين بمجمع عبد الرحمن البشير. ف70 في المائة من إصابات العمال لها علاقة بالعمل. وتقع الإصابة في المعامل التي تستخدم الآلات خطرة مثل المناشير مما يقتضي توفير قفازات حديدية للعمال. كما ينبغي إقامة سياجات داخل المصنع تحمي العامل خلال تحريك تلك الاليات الخطرة. ففقد شاب دون العشرين كفه داخل مصنع كان والده قد فقد بصره بالعمل فيه. كما يصيب الرايش العين في ورش الحدادة والنجارة مما يقتضي توفر نظارات واقية. ولازم من الوقاية من المواد الكيماوية واستخدام الفلاش في النظافة. ففقدت عاملة بصرها من الفلاش. ونبه دكتور حاج النور إلى فشو الأمراض من جراء تعامل العمال مع مواد خطرة. ففي معظم المصانع مواد مهيجة للجهاز التنفسي تعرض العمال للأزمة. وتوجد مثل هذه المواد في مصانع البوهيات، والأسمنت، والمواد الغذائية، والملابس (النفو). كما يتعرض عمال المخابز لأمراض التنفس لاستنشاقهم الدقيق خلال ساعات العمل الطويلة. ويستشري بين المعدنين الفشل الكلوي من جراء استعمال الزئبق والسيانيد بالأيدي. ولم نتعرض بالطبع هنا للمصانع "تحت الأرض" الخفية عن الدولة والتي تصنع مواد منتهية الصلاحية مما يجري الكشف عنه يومياً في الصفحة الأولى بالصحف. بدا من حديث دكتور حاج النور أن أرباب المصانع ربما كانوا أعطف على العمال من نقاباتهم واتحاد نقاباتهم. فناشد نقابات العمل بغير لبس أن ينشروا الوعي بالصحة المهنية ببين العمال وبحقوقهم متى أصاب المكروه. فقال إن الجهل، او التجاهل، يسود بين العمال في ما تعلق بإصابات العمل. وسبب التجاهل أن العامل لا يريد المطالبة بعلاجه وتعويضه لأن صاحب المصنع ربما فتك به وفصله بيد أن القانون الساري لجانبه. فقانوناُ يأخذ العامل، متى أصيب خلال العمل (أو في ذهابه إليه او العودة منه)، أرنيك 5 من المؤسسة التي يعمل بها عقب الإصابة مباشرة. ويصحبه ب أرنيك شرطة. ويودعهما مكتب العمل. وبعد علاجه يحوله القومسيون الطبي إلى لجنة مختصة تقرر صحة الإصابة المهنية، وتحدد إن كانت مستديمة أو مؤقتة، ونسبة العجز والتعويض حسب القانون. وسيجد العامل المصاب خدمة محامين من جماعة متطوعة منهم بلا مقابل. وفي المقابل بدت صورة كثير من الرأسماليين أكثر مسؤولية من عصب الانتهازيين في نقابات العمال واتحادهم. وبلغ الأمر من ذلك أن دكتور حاج النور لا يعتقد بجدوى كشات التفتيش المفاجئ. فبرهن بعض أصحاب المصانع على حسن التجاوب متى نبهوا بقوة إلى خروقهم. بل أجرى بعضهم تعديلات جوهرية لتطابق مقتضيات الصحة المهنية. بل وقع اختيار الصحة المهنية الولائية على 8 مصانع نموذجية في الالتزام بالصحة المهنية. والقانون بالسجن والغرامة بالمرصاد للمصنع الذي يفشل في عدم توفيق أوضاعه. وكانت دال من رعاة مؤتمر الصحة المهنية الذي انعقد في آخر أبريل المنصرم. وإن كان ما جاء في جريدة "الميدان" عن بيئة المصانع مما استعرضناه قبل أيام لا يوحي بأن الأمور على ما يرام أيضاً. مما يدعو إلى التفاؤل بمألات الصحة المهنية أن الدولة، حسب قول دكتور حاج النور، تستعيد حالياً هياكل الصحة المهنية التي تلاشت بعد أن كان السودان البلد المميز فيها في الشرق الأوسط في السبعينات. وواضح أن الفضل في ذلك عائد للحركة النقابية الشماء التي التزمت جانب العمال في الخمسينات والستينات بقوة. ويستغرب المرء تبخر تلك الهياكل في بلد به نحو 4 ألف مصنع الفرض العالمي أن يكون بالمصنع دون الخمسين عاملاً ممرضاَ حسن التدريب في الصحة المهنيةـ وأن يكون في المصنع فوق المائة طبيب صحة مهنية مختص. شكراً رجاء، شكراً دكتور على هذه التحية ليوم عظيم لطبقة المستقبل . . . والهدية.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة