في تلك الغابة الصغيرة، التي تفصلها عن الغابات المجاورة جبال في غاية الوعورة وأودية نهرية شديدة العمق والاتساع، كانت الحياة بأشكالها المتعددة تسير على نحو طبيعي لا يثير أي نوع من الدهشة لدى الحيوان العادي، كان التوازن المذهل بين أعـداد وأنواع الحيوانات، الطيور، الزواحف ، الحشرات والأسماك هو سيد الموقف، كل السلطات والثروات كانت موزعة بين كافة المخلوقات بعدالة طبيعية مدهشة! فمن ناحية، كانت الحيوانات المفترسة كالأسود والنمور محدودة العدد وهي لا تمارس القتل إلا لسد حاجتها الطبيعية، ومن ناحية أخرى، كانت الفرائس كالغزلان وحيوانات النو تقاوم النقص الناجم عن صيدها المستمر بالتكاثر السريع! كان قانون توازن القوى مطبقاً بشكل تلقائي، فآكلات اللحوم رغم شراستها المعهودة كانت تعمل ألف حساب لآكلات الأعشاب من ذوات الوزن الثقيل، حتى الأسد الحائز على لقب ملك الغابة كان مجبراً على أخذ الحيطة والحذر من وحيد القرن ذي المزاج المتقلب وثور الجاموس ذي المزاج القابل للإنحراف في أي لحظة! أما قبائل القرود ، التي كانت تعيش على الفاكهة والثمار ، فقد كانت بمثابة جمهور الغابة الأكثر مرحاً فهي لا تكف عن اللهو والتشقلب في أعالي الأشجار وتدبير المقالب لبعضها البعض وسط فيض من الحركات الماجنة والصيحات العربيدة! فجأة، تناقلت وكالات الأنباء الحيوانية الطائرة والزاحفة والراكضة أنباءاً في غاية الغرابة مفادها أن قطعان من القردة تقودها غوريلا قد قامت في ساعات الفجر الأولى بمهاجمة مقرات الأسود في وسط الغابة وقد تسلحت بالعصي المدببة وقطع الصخور الحادة وأنها قد تمكنت من الاستيلاء على السلطة في الغابة، أما مصير الأسود فقد أصبح مجهولاً ويُقال إنهم قد احتموا مؤقتاً برؤوس الجبال وقد يطالبون مستقبلاً بحق اللجوء السياسي في الغابات المجاورة! اعتلى الغوريلا أعلى شجرة في وسط الغابة وراح يطلق صيحات مرعبة ويضرب صدره بقوة من وقتٍ لآخر ثم أذاع البيان رقم واحد فأعلن حظر التجول، منع التجمع ولجم حرية الزئير والعواء ثم أعلن تحول كافة أنواع القردة من آكلات أعشاب إلى آكلات لحوم اعتباراً من تاريخ الانقلاب! بمجرد تذوقها للحوم الحمراء الطازجة ، فقدت القردة مرحها المعهود وصارت تتمتع بشراسة منقطعة النظير ثم بدأت جيوشها الجرارة تجوب الغابة ليل نهار بحثاً عن البروتينات وقد اجتاحت أدمغتها المعتمة موجات من الإثارة الوحشية التي أخذت معدلاتها ترتفع إلى أقصى درجة عند ممارسة القتل العشوائي والقتل مع سبق الإصرار والترصد! ولكي تدافع عن نفسها ضد خطر الانقراض، تبنت بعض مخلوقات الغابة تكتيكات دفاعية موغلة في الغرابة، صارت معظم الثديات تطير في الهواء، تحولت أغلب الطيور إلى كائنات زاحفة وأصبحت جل الحشرات كائنات مائية، ليس هذا فحسب بل حدثت طفرات جينية مجهولة الهوية أدت إلى ظهور حيوانات جديدة لا يمكن تصنيفها تحت أي نوع من الأنواع المعروفة! أما سيادة الغوريلا، الذي تفرغ تماماً لممارسة سلطاته المطلقة، فقد إنهمك في إصدار القوانين إلى درجة أنه صار يسن قانوناً جديداً كل نصف ساعة حتى تكاثرت القوانين رأسياً وأفقياً وأصبحت تتفوق على الطحالب كماً وكيفاً! كنتيجة حتمية لخرق القواعد الطبيعية، تغير قانون الغاب بشكل جذري، حدث اختلال مخيف في موازين القوى، تلاشت التوازنات الطبيعية ثم عمّت الفوضى المطلقة حينما شكّل ذوي الأنياب، القرون والخراطيم ميليشيات حيوانية متطرفة لا هم لها سوى التصفيات المتبادلة، لقد كان القتل فيما مضى قتلاً من أجل سد الحاجة الطبيعية لكنه أصبح الآن قتلاً على الهوية! حيوان واحد فقط لم يتأثر قطّ بكل تلك التطورات الغريبة التي كانت تجري في الغابة الصغيرة، إنه إبن عرس، كان إبن عرس قد حفر نفقاً إسطورياً مكنه من التسلل عبر الجبال ومن تحت الأنهار إلى غابات نائية وقد قرر البقاء هناك لأطول فترة ممكنة دون أن تكون لديه أدنى فكرة عن تلك التداعيات الخطيرة التي ترتبت على وقوع ذلك الانقلاب الحيواني الخطير! فجأة تملكت إبن عرس مشاعر الحنين إلى وطنه في الغابة الصغيرة فعاد مندفعاً عبر نفقه العجيب بسرعة خيالية، أخرج رأسه الصغير من فوهة جحره المفضل، انتصب برشاقة على قدميه الخلفيتين القصيرتين، تشمم الأجواء بأنفه الصغيرة الحساسة ثم تلفت حوله بخفة، وعندها امتلأت عيناه الصغيرتان بالفزع ، ارتعدت كل عضلة في جسده الانسيابي النحيل، اتخذ قراراً سريعاً حاسماً ومن ثم اختفى داخل النفق المظلم بسرعة البرق بعد أن صاح في سره: إذا أصبحت الجواميس تطير في الهواء والخنازير تسبح في الماء والتماسيح تتسلق الأشجار فإن باطن الأرض خير لنا من ظاهرها! تفضلوا بزيارة موقع فيصل الدابي http://http://www.farfasha.online.comwww.farfasha.online.com فيصل الدابي/المحامي
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة