كنا قد توقفنا في الحلقة السابقة عند كيف ان المهدي قبل ان يلتقي بالتعايشي كان فقط مشغولا بمفهوم الاصلاح الديني والوعظ والارشاد الذي تعلمه من شيخه القرشي ود الزين وعرفنا كيف حول التعايشي محمد أحمد المهدي الى مهديآ منتظرآ بعد رؤيته له في المنام بإنه مهديا منتظرا ياتي ذلك بعد ان هدد (سابقآ) الزبير باشا رحمه سلطان بحر الغزال التعايشي بقطع راسه أو أن يكف التعايشي عن هراءه واحلامه هذه.
ومواصلة لما بدأناه يمضي مفكرنا بالقول:(شهد نهاية العام ۱۲۹۷ هـ وفاة الشيخ القرشي - آخر شيوخ المهدي - فبدأ بممارسة استقلاليته في التحرك وفي نفس نهاية العام ۱۲۹۷ هـ أو بداية ما يليه كان اللقاء بينه وبين التعايشي، أي عام ۱۲۹۸ هـ حيث اصطحبه الأخير في رحلة إلى كردفان وجبال النوبة، ولما عادا من تلك الرحلة في شعبان ۱۲۹۸ هـ بدأت ومنذ شعبان منشورات الإعلان عن المهدية مما أدى إلى أول صدام مع الحكومة الخديوية في (أبا ) بتاريخ الجمعة ١٦ رمضان ١٢٩٨ هـ الموافق ١٢ أغسطس/ آب ۱۸۸۱ (۲) م
ولنا أن نتساءل هل كان يمكن لمحمد أحمد بن عبد الله أن يدعي المهدوية لو كان شيخه القرشي حياً؟ أو حين لم يلتق بعبد الله التعايشي ولم يأخذه الأخير إلى كردفان وجبال النوبة بحيث يطلعه على الروح القتالية لقبائل الغرب خلافاً لما كان عليه حال قبائل النيل والوسط التي كان يعيش في كنفها ؟
قد تحول عبد الله التعايشي بمحمد أحمد بن عبد الله من رجل دعوة ووعظ وتصوف وإصلاح إلى قائد ثورة تحت مظلة (المهدوية) وحدد له مجال تحركه في غرب السودان وليس الوسط النيلي مسبقاً، وبما أن عبد الله التعايشي لم يكن مؤهلاً ليلعب شخصياً هذا الدور لاعتبارات تتعلق بوضعه العائلي والقبلي فقد ألقى بطموحاته على محمد أحمد بن عبد الله بعد ان فشل لم يكن رجال الصوفية والفقهاء في السودان يرفضون دعاوى الإصلاح،ولم يسكتوا عن مظالم السلطة الخديوية، ولكن لم يدع أحدهم المهدوية، ولم يعلن ثورة على السلطة القائمة لأنها ترتبط بمركزية (الخلافة الإسلامية) وهي خلافة كانت تعاني الضغوط البريطانية بالذات من أجل تفكيكها ثم إسقاطها ووراثتها. وهذا موقف نراه بوضوح فيما كان يتخذه الشريف محمد نور الدائم - الشيخ السابق للمهدي - فيما سنراه في الفصل الثالث حيث انتهت به مواقفه إلى نفي البريطانيين له إلى جبل طارق في عام ١٨٨٤ م .
كان أمثال الشريف محمد نور الدائم يعارضون الوجود البريطاني في إطار الخلافة (الخديوية) ولكنهم لا يستسيغون الثورة على الخلافة نفسها، لذلك شوه (نعوم شقير) و (سلاطين باشا ) مواقف أولئك الشوخ في كتاباتهم التاريخية ووصفوهم بما ليس فيهم، حتى أنهم أرجعوا خلافهم مع المهدي إلى اعتبارات شخصية ،وذاتية وهي ليست كذلك، إذ كانت خلافات (مبدئية)، إذ تُرفض من ناحية ادعاءات المهدوية وترفض من ناحية أخرى الثورة على الخلافة وللشيخ محمد نور الدائم قصيدة في نقد مسلكية تلميذه السابق محمد أحمد بن عبد الله توضح هذه المعاني، فهو يقول عنه أنه قد (غرر به - أي محمد أحمد) من قبل (شيطان إنس) ويقصد به التعايشي، ويحذره من التطلع إلى الثورة والسلطة (الكرسي ودول الغير) والميل إلى (حب الرئاسة ،والجبر)، فالمسألة لم تكن شخصية قط. قد انتهت ثورة المهدي بفصل السودان عن مصر وعن مركز الخلافة الإسلامية ولم يقطف هو ثمارها، إذ توفي (فجأة) بعد خمسة أشهر من دخوله الخرطوم، وهو في حيوية شبابه ولم يعرف عنه مرضاً، وعاشت البلاد من بعده فوضى لا مثيل لها استنزاف داخلي وحروب مع دول الجوار، وتطويق غربي أوروبي من سائر الأرجاء، وهو أمر كان يحذر منه الزبير باشا والشريف محمد نور الدائم والشيخ عبد العظيم العبادي، حتى أن أكثر هؤلاء أراد منع غردون من إعلان (إخلاء السودان) والمهدي لم يكن وقتها مؤثراً بعد ولكنهم تبينوا أن خطة بريطانية أكبر منهم تتخذ مجراها الفعلي في المنطقة بأسرها.
ليس في كل ما نقول ما يقدح في شخصية (المهدي) نفسه، بدليل أنه قد مات (فجأة) وهو في ريعان شبابه وكامل فتوته وفي سن الحادية والأربعين وبقي السودان من بعده لا كدولة مستقلة - كما يفترض البعض - ولكن كأرض (خلاء) بموجب إعلان غردون بما يعني قابليتها الإعادة الترتيب ضمن مصالح الدول الأوروبية، وهذا ما كان.
إن إعادة فتح ملف المهدوية السودانية أمر ضروري، لا من أجل ماضي السودان ولكن من أجل حاضره ومستقبله وعلى رأس الملفات ما انتهت إليه الحقبة المهدوية من نتائج استراتيجية بعد إعلان السودان أرضاً خلواً وصراعاته مع دول الجوار وأحداث الانقسامات الداخلية فيه وعزلته عن العالم. ثم على رأس الملفات (كيفية وفاة المهدي) فهناك قول (شهادة سماعية أنه قد بدأ بمراجعة ما كان قد قاله وما كان قد فعله، بما يعني قد كان في طريقه لتصحيح الأمور، ولكنه مات وقتها (فجأة)، والشهادة السماعية عن قائدين أنصاريين، أحدهما عبد الرحمن النجومي) والثاني (بابكر بدري، وبما أن الأخير قد كتب مذكراته فإن الأولى بأسرته الكريمة أن تطبع (أصل المخطوط بيده - مهما كان الحرج - وهذا ما أتمناه. فالتاريخ يجب الا يخضع لاعتبارات طائفية أو سياسية أو حزبية.
كما أن عوامل انتصار حركة المهدي لم تطرح في إطار الصراع المصري - البريطاني، إذ اكتفى المؤرخون السودانيون بالاقتصار على العوامل المحلية فقط وهذا أمر يتطلب من المؤرخين الرجوع إلى كافة المذكرات المتبادلة بين كرومر والحكومة البريطانية بشأن المسألة السودانية،وإلى الإستراتيجية البريطانية في الشرق الأوسط، ووادي النيل منذ فترة نهايات القرن التاسع عشر. حيث خططت بريطانيا لتحجيم دور مصر في وادي النيل والشرق الأوسط خشية أن تشكل مصر بديلاً عن الخلافة التركية الآخذة بالانهيار وبالذات من بعد شق قناة السويس في عام ١٨٦٩. وكذلك كان للحركة الصهيونية العالمية دورها في هذا التخطيط، فالدور الذي لعبه كل من سلاطين باشا اليهودي النمساوي الأصل، و(ريجنالد ونجت) اليهودي البريطاني في السودان في فترة المهدية وما بعدها لا يقل عن دور (لورانس) في المشرق العربي، وذلك توطئة أو تمهيداً لإنشاء الكيان الصهيوني بعد ضرب الخلافة التركية وتحجيم مصر كبديل محتمل في ذات الوقت. غير أنه لا المؤرخين المصريين ولا السودانيين قد كشفوا عن هذا الأمر بكيفية توضح علاقة الإستراتيجيا الدولية بتاريخ المنطقة). فجغرافية الوطن العربي السياسية الراهنة وكذلك مشكلاته إنما تعود في خلفياتها إلى مخططات استراتيجية ناشطة منذ منتصف القرن التاسع عشر. ولست أريد إغضاب أحد بقدر ما أريد توضيح الحقائق من أجل مستقبل هذه الأمة) نواصل.... الثلاثاء 31 يناير 2023م عناوين الاخبار بسودانيزاونلاينSudaneseOnline اليوم الموافق January, 23 2023
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة