ولكم في الأمم السابقة والحضارات البائدة لعبرة، فدورة حياة الشعوب والحكومات كحيوات الإنسان، وهن فقوة ثم ضعف، وثنائية الحياة والموت تجدها في الآية الكريمة: يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي إلخ..، فهي عملية تبادلية مستمرة ودائرية لا تخطئها عين الملاحظ، وغالب البلدان التي دمرتها الحربان العالميتان الأولى والثانية، نهضت وازدهر اقتصادها وترفّه إنسانها في ظرف عقد أو عقدين من نهاية الحرب، وعلى مستوى الحاضر المعاصر دونكم رواندا، الجمهورية الوليدة الصغيرة المساحة الغنية بإنسانها وموردها الطبيعي غير المطلة على البحر، شهدنا رحلتها من الضعف والهوان إلى القوة والنضار والإزدهار، تزامناً مع رحلة أعمارنا نحن الأجيال التي اكتمل وعيها مفتتح تسعينيات القرن الماضي – الوقت الذي اندلعت فيه حروب التطهير العرقي بين قبيلتي الهوتو والتوتسي، فتزامنت رحلة القطر الرواندي مع رحلتنا العمرية من الشباب إلى الكهولة، فاصبحنا شهود عصر على تجربة إنسانية ملموسة ومشهودة يمكننا أن نوثّق لها ونقيم الحجة بناءً على حقائقها المعاصرة، ولن يستطيع مشكك في التاريخ أن يقلل أو يزاود علينا، كما هو حال جمهور المشككين أعداء التاريخ المنتشرين هذه الأيام، فتخلُّق الحضارات مثله مثل تخلُّق الجنين الذي يبدأ بالنطفة ثم يصير خلقاً آخر كامل البنيان، والمسافرون إلى جوبا عاصمة دولة جنوب السودان أخبرونا بأن الأمان هناك أوفر من الأمن المفقود بالخرطوم، هكذا تبدأ النهضة من بين ركام الجثث. البشريات المؤكدة على نهوض رجل إفريقيا المريض – السودان – الذي تكالبت عليه جوارح النسور وبغاث الطيور، شاخصة في ثورة الشباب التي كشفت عورة المتنطعين القدامى رواد المشاريع البائسة، التي فشلت في توفير الخبز والغاز والدواء واثقلت خزينة الدولة بديون لا قبل للناس بها، هؤلاء القدامى تراهم يترنحون الآن من شدة بأس المراهقين الصغار المصممين على هزيمة المشروع القديم حتى آخر فرد من فلوله المتمترسين وراء الصفيح الصديء للمحطة القديمة، وما يثلج صدور أقوام البلاد المخلصين هو أن الإفلاس المادي والفكري لهؤلاء القدامى قد وصل منتهاه، وكل الذين يطلّون على المنابر اليومية يكسو وجوههم الشحوب والهزال والاصفرار، الناجم عن انطباق قاعدة أن فاقد الشيء لن يعطيه عليهم، ومما يزيل العبوث عن وجوهنا المثقلة بالهموم هو مشاهد وقوف حمير شيوخ هؤلاء القدامى في العقبة، حينما تطرح عليهم الأسئلة الصعبة التي يستحيل أن يجيب عليها من به مسحة من نفاق وزيف وبهتان، لقد ضحكنا وأرحنا انفسنا كثيراً رغم وطأة المأساة لدى مشاهدتنا للكوميديا المضحكة لرموز المشروع القديم، عندما تفضحهم الأسئلة المطروحة من قبل الإعلاميات والإعلاميين النجباء، وجميعكم كاد أن يفقد توازنه عندما هرب رمز من رموز المشروع القديم خوفاً وهلعاً من الأرض إلى السماء ذات البروج، بعدما طرحت عليه مذيعة نجيبة سؤال نجيب وقاس ومرعب في نفس الوقت، فعندما يقوم زووم كاميرا التلفاز بهزيمة فوهة البندقية تأكد أن الشعوب سائرة على الدرب الصحيح رغم العنت والمشقة. الرباط الوثيق بين تجمعات الجيل الراكب راس في مدن البلاد، وريادة هذا الجيل في صناعة وتشكيل الرأي العام، هو البشرى الكبرى لانتصار المشروع الجديد المسنود بسواعد الشباب المناصرين للفضيلة، في الوقت الذي يتنازل فيه القدماء عن اللحاق بركب التغيير الشامل، فهؤلاء الصغار أدهشوا اليائسين الكبار بعلو همتهم وارتفاع سقف طموحهم وهم يتلون البيان تلو البيان بأن لا ... ولا .... ثم لا، في تصميم عنيد وإصرار مميت على الوفاء لدم الشهيد، لقد أرهقوا مؤسسة السلطة الجبرية العسكرية الممسكة بمقاليد الأمور، وأتعبوا جنودها جراء المطاردات الليلية والنهارية لليافعين الشجعان الصغار المقاومين لجبروت ترسانة الموت، فاصبح القدماء مواجهون بحقيقة ماثلة لا يتجاهلها إلّا جاهل، وهي نضج الفكرة والتجربة الثورية لهؤلاء المقاومين الشباب وتمددها بين الأسر والأهل والعشائر، وأمست ثقافة شعرية وأدبية وغنائية وتشكيلية ومنهج حياة، وهذا الاندياح الثقافي الجديد هو البديل الناجح والحل الناجع لهزيمة المشروع القديم، ودحر المراهنين على سطوة القوة المادية للمقذوف الذي يستقر آمناً مطمئناً داخل صدر مراهق صغير يهتف ...سلمية ... سلمية .... سلمية ...حتى آخر رمق من حياته القصيرة الأجل التي لم يتذوق فيها طعم الدنيا.
عناوين الاخبار بسودانيزاونلاينSudaneseOnline اليوم الموافق July, 24 2022