من عقيدة الدكتور النور حمد في ما أذاعه في مقالاته "تشريح العقل الرعوي" أن قدوم (غزو) العرب "مو بشارة" كما في دارج قولنا. فقد جاؤوا جحفلاً رعوياً فجحفلاً رعوياً بإسلام "قشرة" بالغ السطحية. وهكذا أسقطوا الدول المسيحية وآخرها علوة التي تحالفوا لخرابها مع رعاة الفونج. وأنشأوا دولة الفونج في التحالف المعروف بين عمارة دونقس الفونجاوي وعبد الله جماع القواسمي. وهي دولة في الدرك بمعيار الحضارة. وهكذا قضوا على الإرث الحضاري النوبي. استقى النور عقيدته آنفة الذكر من معارف عن ابن خلدون والجيل الأول من الآثاريين مثل آركل ومخطوطة تاريخ السودان لأحمد بن على كاتب الشونة. وسنعرض للمطاعن المعاصرة والتاريخية على هذه المعارف في مناسبة أخرى. ونقتصر اليوم على السؤال: هل كان العرب من جاء بالبداوة للسودان؟ هل لم تسبقهم شعوب رحل وضعت بصمتها على تاريخه القديمة بما فيها هدم (أو القيام بمحاولات جدية للغرض) هذا الإرث الحضاري النوبي؟ لن يخطيء القارئ العابر لتاريخ السودان القديم الوجود السياسي والديمغرافي للرحل في أرجائه. ولست تجد بالطبع تأرخة لهم إلا من نقوش ملوك الحضر الذين فخروا فيها بنصرهم عليهم وتشتيت شملهم. وعليه فهم في البادي من صورتهم في النقوش السلطانية مما قد نطلق عليهم "الأشقياء" في مصطلح الدولة الإسلامية تصف أهل البادية المتمردين عليها. وهو مصطلح يُفْرغ المتمردين من كل دافع سياسي مثل السخط على إثقال الدولة عليهم بالمكوس والجباية. كان فضاء بادية السودان القديم غاصاً بالرعاة على غرب النيل وشرقه. فجال في ############اته الصحراوية بدو البلهاو أو البليميون والمدد وكلاهما من البجة، والرهرس وعشرات غيرهم. وصورت سامية دفع الله العلاقة بين الحضر والبدو كما تجدها عند ابن خلدون. فعلاقتهما في مملكة نبتة اتسمت بالشد والجذب. يثب فيها البدو على الحضر ويحلون محلهم في أوقات الأزمات ونقص الغذاء. ولهذا تُجرد الدولة الحملات لصدهم وقمعهم. وربما دل حلول طائفة من البدو سدة الحكم بدلاً عن طائفة أخرى نسبة ملوك نبتة للبليميين البجة من رحل الصحراء الشرقية في قول برايان هيكوك ودليله على ذلك أن إحدي زوجات الملك عُرفت ب"كبرى سيدات البدو" توثيقاً للعلاقة. وجدل البادية السودانية والحضر العدواني قديم في السودان. فظلت الشعوب التي سكنت دار النوبا مصدر قلق للدولة في مصر الفرعونية والرومانية كما كانت بالنسبة للدولة الإسلامية في ما بعد. فاضطر الفرعون بيبي ناخت من الأسرة السادسة إلى الحادية عشر لحرب أهل المجموعة "ألف"حرباً اضعفتهم مما مكن للمجموعة . وهي جماعة يرجح الآثاريون أنها جاءت من غرب النيل هرباً من تصحر بيئتهم. وهم من جرد لهم الجيوش أنتف وأمنوحتب (1700 ق م) لقمع تمرداتهم التي أحرقوا فيها القلاع المصرية. ومن رأي آركل أنهم لم يكفوا حتى بعد قدومهم إلى المنطقة من كونهم رعاة أو شبه رعاة وإن رشح مرة أخرى أنهم كانوا مستقرين يسعون البقر ويوقرونها في طقوسهم توقير البادية العربية للجمل. كما لم تسلم مصر الرومانية منهم. فأغار البيلميون البجة عليها في 250 م . وتحالفوا مع زنوبيا ملكة تدمر في سوريا حين اغارت على مصر الرومانية. فهزمهما الرومان. ولكن عاد البليميون واحتلوا مواقع بجنوب مصر. كما تعرضوا لبعض القواعد الرومانية على البحر الأحمر. واغاروا على طيبة والواحات الخارجة (مركز روماني). ونهبوا الواحة وأسروا بعض سكانها. وأطلقوا سراح رجل شهير نفاه الرومان إلى الواحات بعد مفاوضات مع الأمازيغ البربر. وربما كان هذا هذا النشاط البليمي ضد الرومان هو ما كتب عنه مؤرخ روماني في منتصف القرن السادس فقال إن الامبراطور الروماني دايوكليتيان دعا النوباتي-النوبة لاحتلال الأرض دون الشلال الأول ليصدوا بدو الصحراء المعروفين بالاسم الشامل البليميين. ومن المتفق عليه أن النوبة والنوباتي شعب من الرعاة جاؤوا من الصحراء الغربية ومن كردفان ودارفور عند بداية العصر الميلادي لتنتشر على طول أراضي مملكة مروي. ثم استبدل هؤلاء النوبة سلطان الكوشيين في دولة مروي وسادوها في القرن الرابع بعد الميلاد بصورة اختلف المؤرخون في صورتها: هل بجحفلة رعوية أم "بريس بريس" كما نقول؟. أما نقوش ملوك مروي فحفلت بذكر شغب الرعاة وتجريدهم الحملات لقمعهم. فظهرت على نقوش للملك أماني ِنِتي يركي (Amani/nete/yerike) (435-417 قبل الميلاد) أنه شن حملات ضد جماعة الريهرس الذين احتلوا شمال جزيرة مروي ثم سار ليُتَوج ملكاً في نبتة. ثم سار مُصَعداً إلى موضع يقال له كرتن (على يمين النيل) ليحارب المِداد الموصوفين بأنهم سكان الصحراء. كما حارب الملك هارِوتف (Hariotef) (417-416) كل من المداد والرهرس خلال رحلة تتويج نفسه من مروي إلى نبتة. وفعلها ناستاسن (Nastasen) (337-335) فأوقع بالرحل وجبى 300 كيلوجرام من الذهب بالقرب من مروي. ثم لم تكن الممالك التي يزعم لها النور التحضر بإطلاق أقل شراسة مما ينسبه للبدو وعقلهم القاتل. فعيزانا ملك أكسوم يفخر في نقشه الذي دون فيه نصره على "نوبا" كوش الذين نقضوا عهدهم. وسمى عدوانيتهم ب "أعمالهم الشريرة". وقال إنه قتلهم ولاحقهم حين ولوا الأدبار. فقتل منهم وأسر وزاد: "وأحرقت مدنهم المشيدة بالقصب، والمشيدة بالطوب، وأخذت طعامهم ونحاسهم، وحديدهم، وحطمت التماثيل في معابدهم، وخربت مخازنهم، وقطنهم، وألقيت بكل ذلك في النيل." ومع ذلك يظن آثاريون معاصرون أنه كان جخاخاً كذوباً في تثمين غرواته وانتصاراته. لم أرد كغير مختص بهذا التاريخ القديم سوى القول إن الرعاة حقيقة معاشية وسياسية وديمغرافية سبقت العرب. فلا سند لصورة النور للعرب كجحافل مخرية غير مسبوقة في السودان. وسنرى في حلقة أخري أدوار النوبة الرعوية في مروي وخلاف المؤرخين حولها.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة