يحاول الاحتلال الإسرائيلي عبثا تطويق المقاومة الفلسطينية في الداخل بتعزيز مسارات النكسة العربية الثانية، بيد أن تلك المقاومة الشرسة ولحسن الحظ لا علاقة عضوية لها بدول الانكسار العربية المحمولة على قطار التطبيع وئيد الخُطى بسبب رفض الشعوب التي يعرض قادتها أوطانهم للبيع في سوق النخاسة الدولي. ففيما يهرول المرتبكون نحو الاحتلال، يبذل لهم شباب فلسطين وأطفالها دروسا في المقاومة والزود عن الأرض والتمسك بقضية الأمة العادلة ولو بلغ النفاق الدولي والخذلان العربي عنان السماء. فكل من أراد أن يحكم ويثبت كرسيه المهتز ويفرض سلطانه، يظن أن بوابة إسرئيل سبيلا لذلك الطموح الآثم. في يونيو 1967 كانت "النكسة" الأولى وهي مصطلح تجميلي والتفافي على حقيقة موجعة وهزيمة نكراء جراء العدوان الإسرائيلي على مصر وسوريا والأردن، واحتلال ما تبقى من فلسطين التاريخية. والتي انتهت تلك المواجهة بهزيمة الجيوش العربية واستيلاء إسرائيل على 85 % من أراضي فلسطين التاريخية، واحتلت ما يعادل خمسة أضعاف مساحتها حينئذ على حساب سيناء والضفة الغربية لنهر الأردن ومرتفعات الجولان. وأكثر من ذلك فتحت النكسة باب الاستيطان في الضفة المحتلة وخاصة مدينة القدس الشريف. لقد ظل إصرار إسرائيل على التوسع راسخا منذ ما قبل حرب 1967، ففي أعقاب قرار الجمعية العمومية للأمم المتحدة عام ١٩٤٧ بتقسيم فلسطين لدولتين عربية وأخرى يهودية، أصدر مناحم بيغن قائد منظمة الأرغون الإرهابية آنذاك أمراً جاء فيه إنه لم يتم تحرير الأرض، بل تم بترها، وسوف تتم استعادة أرض إسرائيل لشعب إسرائيل وإلى الأبد. واستقال بيغن من حكومة غولدا مائير عام ١٩٦٧ لقبول الحكومة لقرار مجلس الأمن ٢٤٢ الصادر في نوفمبر ١٩٦٧ والذي نص على عودة الأرض العربية المحتلة. واليوم تعيش فلسطين نكسة ثانية على خطى تطبيع مذل تحت مظلة مشروع سياسي إسرائيلي هدفه دعم وتوسيع دائرة تطبيع العلاقات مع الكيان الغاصب. فموجة التطبيع الأخيرة مع المحتل الإسرائيلي قامت على أساس اتفاق سمي بـ "الاتفاق الإبراهيمي". لقد كان الهدف السياسي المرحلي لأسرائيل اكتساب شرعية وجود الدولة الإسرائيلية وتأمينها في أقصى حدود ممكنة، مع حل الأزمة بكيان فلسطيني لا يمثل تهديداً لإسرائيل من خلال اتفاقيات سلام منفردة مع الدول العربية. وحددت إسرائيل الهدف السياسي العسكري بتحقيق تفوق عسكري على كل الدول العربية يمكنها من الضغط عليها لقبول اتفاقيات سلام تحقق الهدف السياسي المرحلي، مع ضمان عدم تهديد الأمن الإسرائيلي من الدول العربية. ونجحت إسرائيل بدعم غربي وأمريكي في بناء دولة بوليسية حارسة وقابضة على التطورات السياسية والاجتماعية في المنطقة. ويعيش الاحتلال اليوم وضعا عسكريا مريحا جدا جعله يركز على التحركات السياسية المحروسة بالعصا العسكرية؛ فمنذ أن وقعت مصر اتفاقية واشنطن في 26 مارس 1979، لم تتبلور إستراتيجية عسكرية عربية واضحة المعالم والأهداف كما هي في الإستراتيجية العسكرية الإسرائيلية. فحتى العام 1977 كانت هنالك إستراتيجية عسكرية عربية فإن لم تكن شاملة لكن تشترك فيها أو توافق عليها أكثر من دولة عربية. لكن بعد نوفمبر 1977 أصبحت هناك سياسات قُطرية أحادية لا عربية شاملة للتعامل مع المحتل الإسرائيلي. وتضحك إسرائيل على العرب، إذ تقول إنه لابد من التطبيع الكامل للعلاقات قبل التوصل لاتفاق عن السلام، وتطمح بعض الدول العربية وجميعها غارقة في مستنقع ضعف مزرٍ، في أن السلام يعني التوصل لاتفاق ينهي حالة الحرب، ويضع الضمانات الكفيلة بعدم تكرارها وبالتالي لا يرتبط بعلاقات تبادل أو تفاعل في أبعاد النشاط الدولي أو الإقليمي الأخرى. لكن الأهداف الإسرائيلية تتطور وتختلط في كثير من الأحيان وبشكل مربك ومقصود، بإستراتيجية تحقيقها مما يجعل من الصعب الفصل بين هذه الأهداف وإستراتيجية تنفيذها. وتتمثل أبعاد الإستراتيجية العسكرية الإسرائيلية في التوسع الإقليمي بهدف كسب العمق الإستراتيجي وخدمة الأمن، وضمان التفوق العسكري سواء في مجال السلاح التقليدي أو النووي، أيضا ضمان الحفاظ على يهودية الدولة الإسرائيلية ومحاولة جعل اليهود هــم الأغلبية بالدولة بتشجيع الهجرة للداخل لليهود وتهجير الفلسطينيين والتنكيل بهم، الاعتراض على قيام أي دولة فسلطينية على أرض فلسطين وفي ذلك رفض لما يسمى بحل الدولتين. فضلا عن ذلك الحفاظ على العلاقة الخاصة بالولايات المتحدة الأمريكية، والعمل على أن لا يشكل العرب بديلاً ممكناً لإسرائيل في التخطيط الإستراتيجي الأمريكي في المنطقة. ومن أهداف الإستراتيجية العسكرية الإسرائيلية نقل الحرب لأرض الخصم وذلك يستدعي وجود قوة عسكرية قادرة تردع أي قوة عربية تحاول الخروج عن التقسيم الإستراتيجي للدوائر العربية المنفصلة وهي تعزيز سياسة فرق تسد، فالذئب يأكل من الغنم القاصية. لقد قسمت إسرائيل العالم العربي لثلاث دوائر إستراتيجية هي: دائرة وادي النيل، ودائرة الجزيرة العربية، ودائرة الشام. ولا تسمح إسرائيل لأي دائرتين من هذه الدوائر بالتنسيق معاً. إن غاية التفوق العسكري الإسرائيلي على العرب هو ضمان القوة الرادعة لإيصالهم لحالة نفسية بمرور الزمن يشعرون فيها باستحالة محاربة إسرائيل لإعادة الأرض المحتلة. اليوم تصرف إسرائيل نسبة ضخمة من ناتجها القومي على الدفاع، فموازنة وزارة الدفاع للعام 2022 تقدر بنحو 17.6 مليار دولار من إجمالي الموازنة العامة البالغة نحو 133 مليار دولار. وهذا التفوق النوعي لم يمنع إسرائيل من تطوير نظرية أمنها القومي وفق مفاهيم حديثة للحرب تمثلت في الحرب الاقتصادية؛ وفي هذا المفهوم تحدد إسرائيل مكان وزمان الحرب. كذلك مفهوم الحرب التي تستهدف إحداث تغييرات سياسية كبرى وعدم الاختصار على مسائل الردع أو الإحباط.
عناوين الاخبار بسودانيزاونلاينSudaneseOnline اليوم الموافق January, 23 2023
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة