ربما لا نقول شططا إن اعتبرنا المخدرات إرهابا صامتا يسري في أوساط المجتمعات واقتصادا أسود يهلك الحرث والضرع، وقد ارتفع سقف رعايتها إلى أهداف سياسية بحتة ولا يقل ذلك خطورة عن إعلان الحرب. وليس سرا رعاية دول عديدة لإنتاج المخدرات وتوجهيها إلى دول أخرى في إطار حرب لئيمة. ومن المدهش أن حجم تجارة المخدرات عالميا يبلغ نحو 500 مليار دولار، وهو ما يقارب تجارة السلاح العالمية إذ تصل لنحو 531 مليار دولار، وفق تقرير للمعهد الدولي لبحوث السلام في ستوكهولم عاصمة السويد. ولا شك أن الحرب مكروهة ومخيفة ومميتة ومدمرة، بيد أن هناك حربا أخرى غير الحرب التي نعرفها، حرب أخطر بكثير، فهي حرب دمرت وما زالت تدمر وتحرق وتجرف، إنها حرب المخدرات، حيث تؤكد الإحصاءات أن حرب المخدرات تكلف البشرية فاقداً يفوق ما تفقده في الحروب المدمرة. هناك نحو 275 مليون متعاط للمخدرات حول العالم وفقا لإحصاءات عام 2021 ونحو نصف مليون حالة وفاة في العام 2019 فقط. إن نهاية كل مدمن للمخدرات تدمير نفسه، وزوال كرامته، والعزلة الاجتماعية، ودخول السجن أو المصحات النفسية، أو التشرد في الشوارع. ويمثل الإدمان رغبة قهرية للاستمرار في تعاطي المخدرات أو الحصول عليها بأي وسيلة وبأي ثمن، مع الميل إلى زيادة الجرعة؛ مما يسبب اعتمادًا نفسيًّا وجسميًّا وتأثيرًا ضارًا في الفرد والمجتمع. وبلغ من خطورة المخدرات أنها غدت مهددا جديا للجنس البشري بالانقراض نتيجة لارتفاع نسبة التعاطي بين بني البشر لا سيما الشباب الذين يمثلون 80 % من المتعاطين بل حتى فئة الأطفال. وتكابد كثير من دول المنطقة خطر هذه الآفة التي تنتشر كانتشار النار في الهشيم؛ في الأردن تم التعامل خلال العام الماضي، مع 19 ألف قضية ضبط من خلالها 27 ألفا و245 شخصًا منهم 9591 متهمًا بترويجها وتجارتها وفقا لمديرية الأمن العام. وتمت الإشارة إلى أن الكميات التي تم ضبطها كميات غير مسبوقة في تاريخ الأردن. وتشير مصادر غربية إلى أن 80 % من الكبتاغون في العالم مصدره النظام الحاكم في سوريا. وفي السودان ومع تزايد الانتقادات لتراخي الدولة في محاصرة الانتشار الواسع للمخدرات، تبنّى رئيس مجلس السيادة الجنرال عبد الفتاح البرهان إطلاق حملة قومية للمكافحة لمدة عام، قبل أن يتهم جهات ومنظمات - لم يسمّها - بالترويح لهذه الآفات "بدعم بعض المجموعات تحت لافتة ترسيخ الديمقراطية". وتشير معلومات إلى أن الاحتجاجات المنتظمة التي تدعو لها لجان المقاومة ضد السلطة العسكرية الحاكمة، يتم فيها تعاطي وتوزيع المخدرات بكثافة، وأن غالب المتظاهرين يكونون تحت تأثيرها. والمخدرات تعد واحدة من أخطر وأقذر الأسلحة التي تستخدم في الحروب سواء المشتعلة أو حتى الباردة. والمدهش أن سلاح المخدرات سرعان ما يشتعل بين صفوف جند الطرف المستخدم له لأن الكثير من الجيوش العالمية تستخدم هذه الأسلحة على جنودها حتى تستمر في المعارك لمدة أطول كونها تمنح الجندي الشعور بالشجاعة والثقة العالية بالنفس وتساعده على التقدم إلى داخل مناطق العدو الساخنة. واستخدام الجيوش للمخدرات القتالية قديم كما في الجيش الأمريكي والأحمر والألماني وحديثا في الجيش الأوكراني والروسي وجيش الاحتلال الإسرائيلي، فقد كتب صحفي إسرائيلي تقريرا قال فيه إن الجنود الإسرائيليين لديهم أسبابهم وتبريراتهم لتعاطي المخدرات حيث يشعرون بأنهم يفعلون أشياء خاطئة تجاه الفلسطينيين، أي مهاجمة البيوت، وبث الرعب في نفوس الأطفال، وقتل المحاصرين في غزة، بما فيهم الرعاة والصيادون. وحاولت الولايات المتحدة ابتكار وتطوير مخدرات قتالية على أساس مادة الميثا امفيتامين والتي استخدمها جنودها في الحرب العالمية الثانية للتغلب على الإجهاد ومحاربة النعاس في الحرب ضد الرايخ الثالث وحروب أخرى خاضتها الولايات المتحدة، لكن التجارب أظهرت أن هذا النوع يعمل على انعدام الخوف والإنسانية في نفوس متعاطيها ويقودهم لارتكاب الجرائم، وعلى المدى الطويل يخل بالصحة النفسية لمتعاطيها. روايات كثيرة كُتبت عن الحرب اللبنانية كثير منها تناول جانب تعاطي المخدرات بين المقاتلين وذكر البعض كيف أن الإسرائيليين هم من يموّل المقاتلين جميعاً بالمخدرات إذا نقصت عن مجموعة مقاتلة حتى تستمر عجلة القتال دون توقّف. مؤخرا أصدر الروائي اللبناني ربيع جابر رواية "طيور الهوليدي إن"، تحدث فيها عن الحرب اللبنانية وعن المخدرات التي كان يتعاطاها المقاتلون فتياناً وفتيات في مناطق القتال بين الفئات المتناحرة في معارك بيروت وكيف كانت المخدرات جزءاً لا ينفك عن الحرب والقتال في حروب المليشيات. في سيراليون الدولة الأفريقية، أصدر رجل كتابا بعنوان "الطريق الطويل: مذكرات صبي مُجند". يحكي فيه دخوله معترك القتال وهو صبي في الثانية عشرة من عمره، مجندا في الجيش السيراليوني ضد الثوار الذين كانوا يحاولون إسقاط نظام الحكم. كان ذلك الصبي وجيله من الأطفال الذين جندوا لا يعرفون ماذا تعني كلمة جندي أو مقاتل. يقول الكاتب ساردا قصته المؤلمة؛ إن العريف المسؤول عنهم أعطاهم سجائر مع الطعام ثم أحضر لهم حبوبا بيضاء قال لهم بأنهم سوف يستمتعون بهذه الحبوب البيضاء وسوف تُعطيهم طاقة تساعدهم على القتال. ويقول الكاتب: أخذنا من تلك الحبوب البيضاء وشعرنا بسعادة وأصبحنا نتناولها كل يوم وبشكلٍ غير محدود. فأصبح الأطفال الذين في سن الطفولة يُقاتلون بوحشية. ويصف الكاتب بعض المعارك التي خاضها هو ورفاقة الأطفال الذين في الثانية عشرة من أعمارهم، كيف كانوا يذبحون الأعداء بالخناجر وكيف يقتلون الأسرى أيضاً ذبحاً، ويقيم العريف المسؤول عنهم مسابقة لتحفيز أسرع طفل في جزّ عنق العدو، ويقول الكاتب كان هو الأسرع. ويمضي قائلا إنه أصبح يقتل دون شعورٍ بأي ذنب أو تأنيب ضمير، بل على العكس كان يتوق للمعارك وأهم ما في الأمر أن يكون هناك مخدراتٍ متوفّرة على مدار الساعة.
عناوين الاخبار بسودانيزاونلاينSudaneseOnline اليوم الموافق January, 23 2023
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة