يتكرر كثيرا هذه الايام الحديث عن ضرورة ايجاد حل للازمة السياسية المتمثلة فى انفراد العسكر بالحكم عن طريق الانقلاب الكامل الاركان فى الخامس والعشرين من اكتوبر 2021، ومانتج عن ذلك من انهاء للتعاون بين العسكر و"قحت " المتمثل فى حكومة الدكتور حمدوك وبالتالى توقف العلاقات الخارجية خصوصا فى مجال العون الاقتصادى ..الخ ..الخ مماهو معروف ومحسوس للكل . فاذا كانت هذه هى تقريبا ملامح الازمة السياسية المراد السعى لحلها ، فان ذلك الحل من الممكن بلوغه باعادة التعاون بين مايسمى بالمكون العسكرى والمكون المدنى ، خصوصا ان هذا هو ايضا مايدعو له ماعرف بالمجتمعين الدولى والاقليمى . وبالتالى فان عودة التعاون بين المكونين المحليين سيعنى بالضرورة عودة التعاون الدولى ،وهو مايعنى فى النهاية حل الازمة السياسية . وقد تبدو المسألة بسيطة الحل بالدرجة التى تدعو لأستغراب البعض عن تاخر الوصول اليه ناهيك عن الاستحالة الواضحة فى تطاوله بل وتعقده ، ولكن ، وكما يعبر الخبراء الاستراتيجيون وغير الاستراتيجيين ، فان الشيطان يكمن دائما فى التفاصيل : أولا : من هو المكون العسكرى الذى انقلب على حليفه ؟ وكيف استطاع ان يفعل هذا بهذه البساطة ؟ وقد يستغرب البعض السؤال عن ماهية المكون العسكرى ولكنى اعتبره سؤال مفصلى فى القضية ، ولو راجع المستغربون منشأه لوجدو انه هو عبارة عن اعضاء اللجنة الامنية للنظام الذى ثارت ضده الامة السودانية وزعمت اللجنة الامنية انحيازها للثورة ولكنها برهنت بم لايدع مجالا لشك اى عاقل ، واكثر من ثلاث مرات على الاقل ،على خدعة ذلك الانحياز ، بل ووقفت ضد العسكر الذين برهنوا انحيازا حقيقيا بتعريض انفسهم للموت برصاص من حاول فض اعتصام الثوار . وبرغم كل ذلك ظلت اللجنة الامنية تستمتع بموقع المكون العسكرى وهو مايعنى انها المكون الثانى ، ان لم يكن الاول ، من مكونات الثورة المسكينة ! وبالطبع فان مجرد الاستمرار فى التمتع بهذا الموقع كاف للاجابة على السؤال الثانى . ولكن لزيادة الايضاح نقول ان نجاح الانقلاب بهذه البساطة له اسباب اخرى تتعلق بتصرفات المكون المدنى منذ قبوله بوثيقة دستورية قيل فيها مالم يقله مالك فى الخمر قبل وضعها فى التنفيذ ، ثم قبوله الجلوس مع المكون العسكرى بعد ان رفض الاخير مجرد هذا الجلوس واجبره على القبول المكون الثورى فى واحدة من الثلاث مرات، على الاقل ، التى انقذ فيها الثوار ثورتهم من محاولات " المكون العسكرى "! ثانيا : برغم الوضع الافضل للمكون المدنى لكونه الذى بادر بالثورة واتحد فى اللحظات الاخيرة على شعار اسقاط نظام الانقاذ عن طريق العمل الثورى بعد ان وضح للطرف الآخر منه فشل اسلوب التفاوض مع التظام ، الا ان هذا الخلل فى تكوينه ظل مطية للمكون العسكرى للاحتفاظ بمقاليد السلطة حتى اليوم . هناك الكثير من الامثلة على هذا من مثل : ما يقوله الطرف الآخر من قحت ، المعروف بأسم "الوفاق الوطنى" والذى فى تقديرى يضم كل اشكال الثورة المضادة ، بدء بالجماعات التى دعت البرهان لأصدار بيان الانقلاب ومرورا ببعض قوى الكفاح المسلح ،التى اعتقد بعضها انه صانع الثورة فى الاساس ومن حقه ان يفعل بها ما يشاء وانطلق البعض الآخر من اعتقاد عميق بأن السلطة ستظل بيد العسكر ربما لثلاثين سنة اخرى ولم يتبق لهم من العمر لينتظروا المشاركة فى السلطة والثورة . هذا الطرف ظل يقول بأن ماحدث فى الخامس والعشرين من اكتوبر هو اصلاح وخلع للسلطة من " اربعة طويلة " ، مع انهم لايجدون الاجابة على السؤال : ماهو الا صلاح الذى تم خلال هذه السنة ، الهم الا اذا كان المشاركة فى سرقة امكانيات السودان من الذهب وغيره واعادة ماسرقه الحلفاء القدامى / الجدد من جماعة الوطنى التى استردت او بالاحرى ردت لها الروح بواسطة قيادة الانقلاب التى تبرهن للمرة الالف على انها استمرت تمثل النظام القديم فى انتظار اللحظة المناسبة لأعادته بالكامل !!ولاشك فى ان العنوان نفسه أى " الوفاق الوطنى " يكفى لمعرفة مايراد اخفاؤه . فهم يتدحدثون عن الوفاق بين الكل وهذ مستحيل ، اذ كيف يتوقعون وفاق بين من يمثل السودان القديم وبين من يدعو الى سودان جديد ؟! اما كلمة الوطنى فهى دائما تستخدم فى معنى اللاوطنى وليس ادل على ذلك من اسم الحزب الذى حكم السودان لمدة ثلاثين عاما وكانت دعوته الولى الى الدولة الاسلامية الكبرى والتى لاتعترف بالوطن عمليا والتى صرح رصفائهم فى مصر بعدم الاعتراف به نهارا جهارا وفى اكثر من تصريح ايام نشوة الحكم الذى لم يستمر طويلا لحسن الحظ والا لكنا راينا هذا المفهوم عمليا ! كذلك ما ظل يكرره المحللون الاستراتيجيون ، وهو ما يعتبر قول حق اريد به باطل ، من ان قحت المركزية لم تنفذ ايا من مهام الفترة الانتقالية من تفكيك للنظام السابق سياسيا واقتصاديا .. الخ ووضع القوانين البديلة التى تعبر عن رؤية الثورة وتكوين المؤسسات المختلفة التى تحقق سلاما حقيقيا وعدالة حقيقية وبرلمانا شعبيا يراقب اداء السلطة الانتقالية ، وكذلك وضع البلاد على طريق التنمية المحقق للعدالة الاجتماعية واخراج مناطق الهامش من وهدة التخلف ..الخ . لهذا ظللت اكرر لمن يناقشنى من قحت المركزية بأن فترة حكمها برئاسة الدكتور حمدوك هى التى اعطت وتعطى هؤلاء لسانا للحديث . ربما تكون نوايا بعضهم ، خصوصا من تنطبق مصالحهم الحقيقية – الطبقية – مع مصالح الثورة بتطبيق شعاراتها فى الحرية والسلام والعدالة، كنقطة البداية لتحقيق السودان الجديد ، كما يعبر عنها الجميع فى الاحاديث المتلفزة ، أقول ، ربما تكون هذه النوايا حقيقية ولكن تطبيقها على الارض هو الذى يغنى ويسمن! هذا وبرغم صحة بعض مايزعمه بعض قادة من مركزية قحت من تصرفات بعض قادة الحل الجذرى التى توحى برغبة فى التفرد بالقيادة ،الا ان ذلك يمكن الرد عليه من انهم هم ايضا يطلبون ذلك وبشكل اوضح فى اللعب على حبلى الشارع والاتصال بالعسكر فى نفس الوقت ! ومع ذلك فقد ظل يكرر الطرفان ان الوحدة بينهما هى الحل لقضية انهاء الانقلاب وبالتالى التحرك نحو فترة انتقالية تحقق ما فشلت فيه الحكومات السابقة بقيادة حمدوك ! كذلك من الاقوال المتكررة للقيادات والمحللين الاستراتيجيين وبعض المحاورين من القنوات العربية : ماذا تجدى المظاهرات ولم تنجح استمراريتها حتى اليوم فى تحقيق شئ على الارض ؟ وهو سؤال قد يكون محرجا لأصحاب الحل الجذرى ، اذ انه ينطلق مما يهدف اليه الساءلون . فالذين يسألون ينقسمون الى قسمين : المشفقون على حال البلاد والعباد بعد مآ آلت اليه أحوال أهل السودان من فقر وفقد الامان والموت اليومى لمن اراد فقط ان يعبر عن رأيه ، والداعون الى حل مايسمونه " الازمة السياسية " . وهؤلاء يتفقون على مايمكن تسميته بالهبوط الناعم . وللرد على الفريقين ، نورد الحقائق التالية ، التى توضح ان المظاهرات قد اتت اكلها بالفعل ، وهى فى سبيلها لتحقيق الحل الجذرى ، الذى لابد من تحقيقه هذه المرة ، وان طال السفر وأجهد وتطلب مزيدا من التضحيات ، ذلك لأنه لايوجد ما يسمى " نصف ثورة " ، كما اثبتت تجارب العالم وكما اثبتت انتفاضتا اكتوبر و ابريل ! : اولا : لقد غلت وشلت ايدى الانقلابيين ومن شايعهم حتى على تكوين حكومة ، ناهيك عن ما كانوا يدعون من اصلاحات يراد تحقيقها وذلك باعتراف القائدالثانى ، الفريق حميدتى . ثانيا :التغيرات التى حدثت وتحدث فى الهامش والتى تتضح لكل من يبصر. وليس آخرها ما حدث لقائد الدعم السريع الذى تصدت له الجماهير بغرب دارفور بصورة اذهلته . وكذلك ابتعاد "قادة " الحركات المسلحة ، وخصوصا منهم من ظل مساندا للانقلاب ، من مجرد الذهاب الى مناطق الهامش التى يدعون تمثيل اهلها الا تحت حماية السلاح . ومن الشواهد الاخيرة ايضا ماحدث بالنيل الازرق والذى فشلت المحاولات التقليدية من انهائه ، بل انه تمدد ليجعل الوالى المكلف من قيادة الجبهة الشعبية لايخاطب الناس الا من امام حملة السلاح . وأكثر من ذلك ان يجعل القائد الاعلى ، عضو مجلس السيادة الممثل للحركة الشعبية بمجلس السيادة الانقلابى ، يدعى بوجود جهات ، لم تسمى كالعادة ، هى التى تنفخ فى كير العداوات القبلية ! القناعة المتزايدة من كل جماهير الشعب السودانى بان الحل الجذرى هو المطلب الرئيس لتحقيق السودان الجديد ، وليس أدل على ذلك من الانقسامات التى حدثت وتحدث فى القوى التقليدية بل وبعض القوى الحديثة وهى تفرز قوى الثورة من قوى الثورة المضادة والانتهازية . ودليل آخر جاء قبل انهاء هذا المقال ، وهو خروج الفلول فى مواكب " هادرة " تحت حماية الشرطة ، بما يدل على اكتمال الفرز الضرورى والمطلوب . ، ولذلك فانى اتوجه الى الفريقين من الثوريين ، الذين يمثلون مصالح جماهير الثورة بالعمل على الوحدة قبل فوات الاوان بالتالى : لقد اصبحت الامور واضحة تماما لكل من اراد ان يبصر ، خصوصا بعد مواكب الامس الفلولية ،التى بينت ملامح الثورة المضادة بشكل لايقبل الجدل . ولم يعد ينفع وضع رجل على المركب واخرى على الطوف مهما كانت الاسباب . عليه فانى اطالب الثوريين من جماعة قحت والذين تجعلهم مصالح من يمثلون فى صف التغيير الجذرى ان ينضموا بالفعل- لا بالاقوال - الى مكانهم الطبيعى غير متحججين بموضوع القيادة لمن تكون . وفى نفس الوقت اطلب من قيادات الحل الجذرى التصرف بالمرونة الكافية التى تعطى قادة هؤلاء الثوريين الثقة فى احقاق حقوقهم داخل تحالف الجذريين ، وذلك من غير تنازل عن اسس التحالف الداعى الى نبذ كل ما اعاق بناء سودان جديد خلال كامل فترة مابعد الاستقلال . الحديث لاينتهى وسنعاوده مرة ومرات ، ولكن قبل ختام هذا المقال الذى طال ، لابد من التأكيد على ان استمرار الثوار فى الشارع طوال اربع سنوات قاسية بكل معنى، لهو الدليل القاطع على ان ثورة ديسمبر هى ثورة الوعى المتراكم على مدى سنين مابع الاستقلال ، وان من ينتظرون خمودها واهمون وانها باقية ومنتصرة مهما طال السفر .
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة