إن العالم تحكمه مؤسسات منتصرة منذ ما قبل الحرب العالمية الثانية وحتى الحرب على الإرهاب، وهذه المؤسسات متفقة على مفاهيم محددة أو تعمل بوحدة شاملة من أجلها، وهي مفاهيم ليبرالية، لكنها ليست كذلك في الواقع، إذ أن وضع كل التنوع الفكري الإنساني في إناء مفهومي واحد يعتبر مضاداً لليبرالية نفسها، وهذا توجه إمبريالي ناعم بدأ في فرنسا عبر البرحوازية المضادة للاقطاعية والتي جعلت من عناصر التنوير مبرراً لغزو الدول. فالتحرير الاقتصادي من سيطرة الدولة وتحرير الفرد من ثقافته عبر حقوق الإنسان، والدموقراطية الموجهة؛ بحيث تتجنب انتقادات الليبراليين الأوائل، كانت العناصر الأساسية، لقمع كل المفاهيم الأخرى، بدأت بقمع حتى الأنظمة الاقتصادية والثقافية القوية مثل الفاشية والماركسية والأنظمة اليمينية، وأنا أتنبأ بأن إسرائيل نفسها (كآخر الدول الدينية السياسية) سوف تتعرض لضغوط مستقبلية بحيث يتغير منهجها السياسي والثقافي كلياً في المنطقة. هذه التحولات التي نراها بقوة في دول الخليج، والذي تتزعم تسويقها (ماديا) دولة الإمارات، مقابل حماية نظامها الأسري، ومصالحه في مقايضة غير محسوبة المخاطر؛ هذه التحولات أُجهضت في مصر وتونس بسرعة، وأريد لها أن تنجح في السودان، ولكن يبدو أن مشوارها نحو النصر أبعد قليلاً من الحسابات التي كانت متوقعة، وربما ذلك نسبة لأن ممثلي ذلك التحول الليبرالي في دول وسط وشمال أفريقيا لم يكونوا مؤهلين التأهيل الكافي، وربما لأنهم تعجلوا قطف الثمار، وأيضاً -وهذا مؤكد بالنسبة لي- أن المؤسسات الغربية استخفت بالشعب السوداني ولم تضع التعقيدات الثقافية والاجتماعية في الحسبان لقد ألغت الشعب تماماً ووضعت مقابل صفراً. تمثل فرنسا -تاريخياً- العقل الفلسفي، وتمثل بريطانيا العقل الصناعي، وتمثل الولايات المتحدة الأمريكية القوة المالية والعسكرية الجبارة؛ رغم ما يبدو من خلافات جوهرية، إلا أن حركة الأفكار تشي بذلك الحبل الذي يربط الدول الثلاثة تاريخياً. أصدر الاتحاد الأوروبي اليوم بيانا عبر سفيره في الخرطوم، وقد ردد فيه بأن الوقت غير مناسب لقيام انتخابات نزيهة، ويبدو أن أوروبا لا زالت متمسكة بخطتها الأولى، أو أنها لم تتوقع تلك الانحرافات الكبيرة في المشهد وبالتالي لم تضع خطة (ب) بديلة. لذلك فحديث ممثلها كان ضعيفاً جداً من حيث افتقاره للتسبيب المنطقي. لا زالت أوروبا تحلم بتنصيب واجهات شبابية رأسمالية وسياسية لها في الداخل، ويبدو أن هذا يزداد صعوبة يوماً بعد يوم، وخاصة بعد عودة الحركة الإسلامية للمشهد بأقوى مما كانت عليه، اثر تبرئة بعض رموزها في القضاء. أما الحزب الشيوعي فقد تم إعلان وفاته تماماً، وذلك لسبب بسيط، إذ أن كل تحركاته تقف ضد آيدولوجيته أو التي من المفترض أن تكون آيدولوجيته، وهكذا أضحى حزباً سلطوياً فارغاً، بحيث لا يعوَّل عليه في قيادة مقاومة فعالة ضد التوجهات الأوروبية. لا استطيع أن أقول بأن التوجهات الغربية سيئة أو جيدة، لكنني أحكم عليها من كونها تضعنا كشعوب داخل السيستم، وهذا قمع لا يمكن قبوله حتى ولو كنا نقبل عناصره، فحيوية الشعوب تكمن في تحررها من النمط الواحد، وليس إدخالها فيه حتى لو كان هذا النمط تحررياً. ففي النهاية نحن لا نريد قوانين بريطانية وفرنسية تجعل من إنكار إبادة الآرمن أو الهولوكوست جريمة، ولا تجريم الخصوصيات الثقافية الدينية ولا تجريم العلمانية في المقابل، نحن نريد أن تكون كل تلك التناقضات موجودة لأن هذا هو المجال الثقافي الحيوي للإنسان الطبيعي. وما عداه صنيعة مدمرة لفحواه التاريخي ومستقبله كإنسان متفاعل وحر.
عناوين الاخبار بسودانيزاونلاينSudaneseOnline اليوم الموافق 02/01/2022
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة