@. حينما أومأ لي ضابط جوازات مطار نيويورك بأن اتبعيني، في حين ناول الكثيرين جوازاتهم، شعرت بأن غمامة سوداء غطت عيني ولا أعلم كيف تحركت رجلاي خلفه كالمعزة ... لا فالمعز يصدرون أصواتا ... والقطط تموء وتخربش بأرجلها ... تبعته بصمت، وقبل أن آخذ مقعدا بذلك المكتب جيء بسيدة كبلوا يديها بجنازير وقفل، هذا المنظر أوحى لي بأن القادم أسوأ وكادت نبضات قلبي أن تتوقف وانفتح صندوق كالح السواد في نافوخي عن هكذا أمريكا.
@. نعم أكوام من الملفات عن أمريكا فتحت كزخات المطر، بدءاً من خروجنا في مظاهرات مدرسية نهتف تسقط تسقط أمريكا ( daon daon USA )، مرورا بما سمعناه من بعضهم بأنها دولة الشيطان الأكبر، وصولا للأفلام البوليسية والرعب التي يدمنها صغارنا وكبارنا الخ، وبرغم أن ذاكرتي ضعيفة، إلا أن خلاياها في تلك الدقائق المعدودة نشطت بصورة مذهلة مستعرضة كل ما قاله سياسيو هذه المرحلة وتفرقعت خطبهم الجماهيرية بأنهم سيسحقونها إلى جزيئات وكل جزئية عبارة عن ملف من ملفات صاحبة السيرة السوداء، والتي تفننت حكوماتنا وبعض بلداننا العربية إلباسها لهذه البلاد، وهي تمدد أنفها وكبرياءها وغطرستها ذاهبة في سبيلها للأمام تتحفها الإنجازات العلمية والعملية والرفاهية وقوة القانون لمواطنيها.
@ وبرغم أنني كنت أعلم مسبقا أن لا مجال بتاتا بتاتا أن أقرأ حرفا من تلك الصفحات التي كان الضابط الأعلى يتصفحها بجهاز الكمبيوتر بطاولته البعيدة عني، إلا أنني كنت أبحلق لعلي أكتشف ما يبحث عنه في سيرتي التي أحسبها بيضاء، في حين ضاع مني كثير مما نستدعيه من دعاء في مثل هذه المواقف، حيث اختلط بعضه بعضا، ولكن أصدقكم القول أن الله الله يا الله لم تتغير ولم تتبدل ووجدتني أدندن بها وأنزلها كحبات خرز مسبحة حبيباتها ملساء ناعمة تتدفق كزخات المطر في يوم غائم.
@. وأخيرا نطق الضابط العظيم باسمي بلكنة أمريكية معروفة للذين يتقنون اللغات العالمية ومدد لي جواز سفري بأن ادخلي يا هذه لهذه النيويورك... لولا ذلك لدخلت في غيبوبة أو فلنقل لنشطت ذاكرتي مستدعية كما آخر من الملفات حالكة السواد التي ما زالت دولنا وبلداننا وكلما دخلت بأفعالها وسياساتها وأرجل أصحاب القرارات فيها تبثها في ذاكرتنا ووجداننا ومناطق الكره فينا لتلك البلاد.
@ حتى ضغوطات المعيشة لاختلال ميزان الإنتاج والاستهلاك وقطوعات الكهرباء وانعدام الأنسولين والخس والخيار وكل ما له علاقة بذنقة ذنقة مواطنيها مرجعه في قواميسنا الدفينة او ذاكرتنا الحية بأن وراءه أمريكا فبات كثير من دولنا تنكمش في إنجازاتها النافعة لمواطنيها أمام هذه الدولة التي تبني اقتصاداتها وتقوي مراكز العلم والبحث العلمي فيها وتؤطر لقوانين وأنظمة لزائريها من طلاب العلم وللنازحين إليها من جحيم بلدانهم وكل ما يصب في صالح مواطنيها الذين يعيشون سواسية أمام القانون ويمارسون "وتبسمك في وجه أخيك صدقة" يرقصون ويغنون ويتحادثون ويتسامرون وينجزون الفتوحات العلمية ويتصفحون كتبهم وصحفهم في القطارات والباصات وعبر سماعات الإذن وكثير غيره، وهذا ما سأحدثكم عنه في مقالي القادم، بعد أن تسلمت بكلتا يدي جواز سفري وخرجت من مكتب التدقيق العشوائي للجوازات، والذي حسبته مؤامرة تحاك ضد كل عربي مسلم كحالاتي ودخلت من أوسع بوابات مطارات نيويورك بسرعة البرق لأقرب تاكسي صادفني وهاجس داخلي يقول لي إن ذلك الضابط قد يلاحقني وينتزع جواز سفري، فإذا بسايق التاكسي يفرد ابتسامة عريضة علي وجهي للدرجة التي حسبته من أبناء عمومتي، فأومأت له أسرع الخطى يا هذا، قبل أن يغير ذلك الضابط قراره بالسماح لي بدخول هذه البلاد، فقد أفهمونا منذ الصغر أنها بلاد لا أمان لها ولا بها.
عواطف عبداللطيف
اعلامية مقيمة بقطر همسة : أسعد اللحظات قضيتها بقطارات نيويورك التي لا تعرف التوقف.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة