جنح الدكتور النور حمد في تعميم غير علمي الطابع إلى تصوير مهنة الرعي على أنها مهنة البدو العصاة المخربين الأشرار. وصوَّرهم على أنهم معادون بفطرتهم للحداثة، وقال إن عدم انسجامهم مع القانون ومع مؤسسات الدولة:" يصل درجة تبلغ إفساد بنية الدولة نفسها". وهذا في الواقع تعميم ذميم، غير قويم، وغير قريب من الصواب، وليس فيه أقل إنصاف لهذه المهنة الشريفة، ولا أدنى رعاية لحقوق ممتهنيها؛ الذين لهم ديْن كبير علينا نحن سكان الحواضر. ومن ناحية عامة فإن مهنة الرعي هي إحدى أشرف المهن وأنبلها، فهي مهنة الأنبياء الذين هم أشرف الخلق وأنبلهم؛ وما منهم من أحد إلا وقد استهلَّ حياته برعي الأغنام، حتى إذا ما جاءته النبوة انصرف إلى رعى الأنام! وما اختار الله سبحانه تعالى مهنة الرعي لأنبيائه الكرام إلا لتدريبهم على عوائد الصبر، وعلى طبائع الدقة في المراقبة، وحسن المتابعة، وإحكام التقويم والتسديد، ونحو ذلك من الصفات الرفيعة التي تتطلبها قيادة البشر وهدايتهم إلى ما يحقق مهمة وجودهم في الحياة. ومهنة الرعي امتهنها أكثر البشر في أكثر حقب التاريخ. وما يزال يعمل بها مئات الملايين من البشر في مختلف القارات. ولذلك لا يسوغ، ولا يجوز، إطلاق التعميمات الجُزافية الظالمة في حق هذه الأعداد الغفيرة من الرعاة، كما فعل هذا الباحث المتعسف المتسرع المسمى النور حمد. ومن جانب آخر تتابعتْ في توافق وتناغم ونعاضد شهادات وإفادات كثيرة صدرت عن علماء الاجتماع المعاصرين دلت على أن طوائف الرعاة هم من أمهر البشر على الإفادة من الخيرات القليلة في الأراضي البور، وفي الاقتدار على تسخيرها من أجل الإنتاج الوفير الذي يفيد الناس جميعا، بما يدره عليهم من لبن وما يمدهم به من لحم وشحم ووبر. ولاحظ هؤلاء العلماء الأجلاء أنه لا يقدر على بذل مثل هذا الجهد المضني المجدي إلا هؤلاء الرعاة البدو الجوالين. فمن ذا الذي في مكنته أن يصبر على استغلال أراضي الصحراء المجدبة أو أراضي السافنا الفقيرة سوى طوائف الرعاة من دون سائر أصناف البشر؟ فهذه الأراضي التي لا تصلح للزراعة تُستغل أفضل استغلال وأجداه على أيدي الرعاة الجوالين الذين يتنقَّلون بينها في مواسم محسوبة، ووفق خطط مرسومة، فلا يكادون يذرون شيئا من امكاناتها النزر القليلة يضيع هباء. ومن علماء الأنثروبولوجيا الغربيين المعاصرين المرموقين من تخصص في دراسة إحدى قبائل الرعي في بلاد السودان، وهي قبيلة الكبابيش الماجدة في كردفان. وهو العالم المفكر الماركسي المعروف الدكتور طلال أسد؛ ابن أستاذنا وشيخنا الروحي والفكري الإسلامي العظيم العلامة محمد أسد؛ من بلاد النمسا. وقد كتب طلال أطروحة نزيهة انضبطت بأسلوب بحثي متين، لا بأسلوب (مكلفت) متكلف، كالذي أقام عليه النور حمد أطروحته المدعاة. ولم يكتب طلال أطروحته من برج عاجي كما فعل النور حمد، ولم يتقيد في كتابتها بهوى حزبي مذهبي جامح كما فعل النور حمد، وإنما كتبها من واقع أرض الكبابيش الرحبة التي عاش بها ردحا طويلا من الزمن، وحيِي بها وكأنه واحد من القوم. وقد حدثني صديقي البروفيسور إبراهيم البشير عثمان الكباشي أنه رأى هذا الباحث الغربي يعيش بربعهم، ويتجول مع قومه في حلهم وظعنهم؛ ويـتأمل أطوار حياتهم، ويستجلي حقائقها، ويستبطن أسرارها، ويحللها تحليلا عميقا دقيقا، وذلك قبل أن يقدم على تسجيلها في بيانه البحثي العلمي الراقي الذي أصدره بعد ذلك في شكل كتاب مرجعي مشهور بعنوان: (The Kababish Arabs: Power, Authority and Consent in a Nomadic Tribe) ولم يخرج الأستاذ طلال من دراسته عن أحوال أمة الكبابيش السودانية عن الإطار العام الذي تضع فيه علوم الاجتماع والأنثربولوجيا زمر الرعاة. وإنما أضاف ببحثه الميداني المتزن دراسة حالة تطبيقية أخرى، أكدت ما قررته النظرية العامة من قبل، ولم تشذ دراسته عن مقررات النظرية المستقرة أو تنأى عنها. ومن بعد علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا لاحظ علماء البيئة الطبيعية أن تجول الرعاة بقطعانهم في أراضي السافنا الفقيرة يسهم إسهاما كبيرا في تخصيبها، وفي تنويع النباتات التي تنمو فيها؛ وذكروا أن من شأن هذا التخصيب والتنويع أن يحمي الأراضي الفقيرة من التدهور البيئي ومن استئثار نوع واحد من النبات بها قد لا يكون مفيدا بالبيئة وقد يضر بها. ومما لاحظه علماء البيئة أيضا إسهام الرعاة في أثناء تنقلاتهم في أراضي القفار في دعم المجهودات الحضرية الرامية إلى وقف تمدد الصحارى وتوغلها في الأراضي الصالحة للزراعة؛ وذلك عندما يقومون بغرس بعض الأشجار خلال تطوافهم في البراري. وقد رأيت بأم عيني تجربة حضارية كبرى للرعاة البدو الصينيين (وهم مسلمون) أسهموا بها في رَجْع الصحراء الصينية خمسة أميال إلى الوراء، وقد كتبت عن ذلك فصلا طويلا قبل عشرة أعوام بعنوان (كيف رَجَعَ مسلمو الصين الصحراء القهقرى؟). ومما يُشهد به للرعاة المتجولين اتصافهم بخلال النجدة والكرم وحسن الضيافة. وقد كان ذلك من ضمن الصفات الفضلى لعرب الجاهلية الذين كانوا يتسابقون إلى بذل القِرى للأضياف. وقد جعلوا في عرفهم القبلي أن للضيف حقا في الضيافة والقِرى ثلاثة أيام. ولما جاء الإسلام أقرَّ هذه العرف القبلي (الرعوي!). ولعرب البادية الرعاة في موضوع الكرم أشعار شريفة سائرة في الآفاق؛ منها قول القائل:
أضاحكُ ضيفي قبل إنزال رحلِه ويخصُبُ عندي والمحلُّ جديبُ وما الخصْبُ للأضياف أن يكثُرَ القِرَى ولكنَّما وجهُ الكريمِ خصيبُ!
وقول هذا القائل نفسه: أوقدْ فإنَّ الليلَ ليل قرَ والرَّيحَ يا مُوقِدُ رِيحٌ صِرُّ عَسَى يَرَى نارَكَ مَنْ يَمُرُّ إنْ جَلَبَتْ ضَيْفاً فأنْتَ حُرُّ! وقوله القائل عينه: كَسَينا صرُوفَ الدّهرِ لِيناً وغِلظَة وكلاً سقاناه بكأسيهما الدهرُ فما زادنا بأواً على ذي قرابة غِنانا ولا أزرى بأحسابِنا الفقرُ فقِدْماً عَصَيتُ العاذِلاتِ وسُلِّطتْ على مُصْطفَى مالي أنامِلِيَ العَشْرُ وما ضَرَّ جاراً يا ابنة القومِ فاعلمي يُجاوِرُني ألاَ يكونَ لهُ سِترُ بعَيْنيَّ عن جاراتِ قوْميَ غَفْلَة وفي السّمعِ مني عن حَديثِهِمِ وَقْرُ!
وغير ذلك من الأقوال التي تهتز للندى ومكارم الأخلاق. وقد كان أولى بالنور حمد إن كان باحثا نزيها أن يمجد بمثل هذه الصفات مجتمعات طبقات الرعاة. لا أن يزري بهم ويتهجم عليهم بمثل ما افترى عليهم من مفتريات!
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة