ذكرنا في الحلقة الماضية أن الآية الحاكمة لعلاقات المسلمين بغيرهم، والضابطة لممارسات الجهاد، هي الآية المدنية الإسماحية الكبرى:(لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) البقرة: 256. وقد جئنا بطائفة من أقوال المفسرين القدامى لهذه الآية الشريفة. وخلاصتها أن مهمة المسلم هي تبيين الرشد من الغي فقط. وأن ليس عليه، ولا له، أن يستخدم السيف لإكراه الناس على قَبول الإسلام، كما زعم زعيم الجمهوريين. وكما تزعم بقايا فلولهم الذين نجادلهم ونجالدهم في هذه الأيام. وقد أدركنا أنه على ضُوء حكم هذه الآية المدنية الإسماحية الشريفة ينبغي أن تقرأ جميع آيات الجهاد . وذلك حتى تفهم فهما صحيحا غير الفهم المغلوط الذي يتعمد نشره الذين يستهدفون تشويه سمعة الإسلام من الدعاة الجمهوريين وغيرهم. فهم يقرؤون - على سبيل المثال - قول الله تعالى في الآية الستين من سورة الأنفال:(وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ) مقطوعا من سياقه الذي ورد فيه. ويوجهونه غير وجهته الصحيحة حتى يستدلوا به على أن شريعة الجهاد، وعامتها من الآي المدني، تحرض المسلمين على التربص بأعدائهم، والتحفز لقتالهم، والعدوان عليهم، وإجبارهم على دخول الإسلام. وهذا فهم غير صحيح على الإطلاق. وإنما يتضح مقصود الآية الكريمة إذا قرئت بشكل طبيعي في سياقها الطويل الذي وردت فيه. فقد وردت هذه الآية الشريفة مباشرة بعد هذه الآيات المحكمات من السورة نفسها:(إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ عَاهَدتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُواْ إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ) الأنفال: 55-59. فهذه الآيات الخمسة التي تقدمتها تكشف عن وجهة دِلالتها. فتدل على أنها نزلت لمعالجة حالة خاصة هي حالة مشركي العرب الذين عاهدوا المسلمين عهودا كثيرة ثم نقضوها. وفي تفسير هذه الآيات قال الإمام ابن كثير:" أخبر تعالى أن شر ما دبَّ على وجه الأرض (الَّذِينَ كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ) الذين كلما عاهدوا عهدا نقضوه وكلما أكدوه بالأيْمان نكثوه (وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ) أي: لا يخافون من الله في شيء ارتكبوه من الآثام (فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ) أي: تغلبهم وتظفر بهم في حرب (فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ) أي: نكل بهم، قاله ابن عباس والحسن البصري والضحاك والسَّدي وعطاء الخراساني وابن عُيينة، ومعناه غلِّظ عقوبتهم وأثخنهم قتلا ليخاف من سواهم من الأعداء من العرب وغيرهم ويصيروا لهم عبرة (لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) وقال: السَّدي يقول: لعلهم يحذرون أن ينكثوا فيُصنع بهم مثل ذلك ". (أبو الفداء إسماعيل بن كثير، تفسير القرآن العظيم، مكتبة مصر، القاهرة، 1409هـ، ج/2، ص 327). وكما فعل الجمهوريون الذين يشوهون عقيدة الجهاد، بفصل هذه الآية الشريفة عما سبقها من الآيات الكريمات، فقد فصلوها كذلك عما لحق بها في سياق السورة نفسها. حيث جاء بعدها مباشرة قول الله تعالى:(وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللّهُ هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ) الأنفال: 61-62. وقد ذكر الإمام ابن كثير في التفسير:" يقول تعالى إذا خفت من قوم خيانة فانبذ إليهم عهدهم على سواء، فإن استمروا على حربك ومنابذتك فقاتلهم، (وَإِن جَنَحُواْ) أي مالوا (لِلسَّلْمِ) أي المسالمة والمصالحة والمهادنة (فَاجْنَحْ لَهَا) أي فمل إليها واقبل منهم ذلك، ولهذا لما طلب المشركون عام الحديبية الصلح ووضْع الحرب بينهم وبين الرسول صلى الله عليه وسلم تسع سنين أجابهم إلى ذلك مع ما اشترطوا من الشروط الأخر... وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إنه سيكون اختلاف أو أمر فإن استطعت أن يكون السَّلم فافعل". (المرجع السابق، ص 330). وهكذا قرر الإمام السلفي العظيم ابن كثير منذ القرن الثامن الهجري أن السِّلم هو الأصل الدائم في شرع الإسلام للعلاقات الدولية. وقرر أن الإعداد للحرب الذي طلب من المسلمين في هذه الآية الحكيمة إنما جاء بسبب توقع غدر الآخرين وعدوانهم. وهو ما وقع فعلا حين نزول هذه الآية الكريمة. وفي تاريخهم الطويل تعرض المسلمون مرارا لأنواع هذا الغدر من جانب جبهة الكفر. ولذلك أوجب عليهم القرآن الحكيم أن يأخذوا حِذرهم دائما، وأن يعدوا العُدة للدفاع عن أنفسهم بالحق، مع الحرص التام على ألا يبتدروا أحدا بعدوان. وقد عجز الجمهوريون عن فهم هذه التوجيهات القرآنية السلمية الحكيمة الواضحة عجزا بيِّنا. أو قل إنهم تغاضواعن فهمها عمدا لغرض يضمرونه. وطفقوا يلهجون بتسمية قول الله تعالى في توجيهه للمسلمين في الآية الخامسة من سورة براءة:(فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) بأنه آية السيف! وادعوا من غير دليل أو برهان مقنع أن هذه الآية الشريفة قد نسخت جميع آيات الإسماح! وأوجبت على المسلمين أن يقاتلوا الكفار في كل وقت وحال. وهذا هو عين الفهم المتطرف الطائش الذي فهمته (داعش) وتعتنقه جماعات التشدد الديني التي هي الوجه الآخر للجمهوريين. ومرة أخرى فقد نزع الجمهوريون هذه الآية الشريفة من سياقها الذي وردت فيه. وإلا فإن الآية التي سبقتها، في السورة نفسها، استثنت من هذا الحكم المشركين الذين حافظوا على حالة السلم مع المسلمين ولم ينقضوا عهودهم بالموادعة. وقد الله تعالى في استثنائهم:(إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) التوبة: 4. وفي تفسير الظرف التاريخي الذي نزلت فيه فواتح (براءة) هذه ذكر الإمام السلفي أبو السعود العمادي، وهو من أهل القرن العاشر الهجري:" والخطاب في عاهدتم للمسلمين، وقد كانوا عاهدوا مشركي العرب من أهل مكة وغيرهم بإذن الله تعالى واتفاق الرسول صلى الله عليه وسلم فنكثوا، إلا بني ضمرة وبني كنانة، فأُمر المسلمين بنبذ العهد إلى الناكثين وأُمهلوا أربعة أشهر ليسيروا أين شاءوا ". (أبو السعود محمد بن محمد العمادي، إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم، دار إحياء التراث العربي، بيروت، د.ت. ج/ 4، ص 40). وهكذا يتضح أن تعقُّب المشركين وقتلهم إنما جاء نتاجا لسوء صنيعهم، وخيانتهم، ونقضهم العهد والميثاق، وابتدائهم حالة الحرب والعدوان. وترتب على ذلك ألا يمضي المسلمون في حفاظهم على معاهدات الموادعة والأمان مع من نكثوها من الكفار. ولا أن يتحملوا مغبَّات العدوان من المتربصين بهم من أهل الشرك. وجاز للمسلمين حينئذ أن يبادروا إلى مواجهة الاعتداء الموجه إليهم وحسمه بما استطاعوا من وسائل القوة والمجابهة. وكل من يقرأ آيات القرآن الشريف بمجموعها قراءة علمية منهجية تكاملية متدبرة لا يخرج من فهم آيات الجهاد إلا بالفهم الذي شرحناه في السطور السالفات. أما أصحاب الهوى والضغائن والعقد النفسية من أعداء الإسلام في الحزب الجمهوري فإنهم لا شأن لهم بالعلم الشريف، ولا صلة لهم بالمنهج القويم، ولا عهد لهم بخُلق الأمانة العلمية المتحرِّجة. ولذلك يعمهون في ضلالهم، ويصرون على ترديد هذا الفهم الخاطئ لآيات الجهاد، من أجل أن يشوهوا هذا الدين. وأخيرا تجرأ أحد مخبوليهم، وهو المدعو طه إبراهيم جربوع، فطلب أن يجتمع علماء الإسلام وأن يتوافقوا على شطب آيات كثيرة من المصحف الشريف، اقترح أن تكون منها وفي طليعتها آيات الجهاد.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة