إن الخوض بلا داع في أمور الاعتقاد، وخصوصا مسائل القضاء والقدر، والتسيير والتخيير، بغرض ضرب آيات القرآن ببعضها البعض، سلوك غير محمود، لجَّ فيه كثيرا محمود. وغرر به أتباعه الأغرار. وقد سرق زعيم الفكر الجمهوري هذه الفكرة اللزجة من ابن عربي الحاتمي. فقد زعم ابن عربي أن فرعون كان مؤمنا بالله تعالى، وأنه لم يكفر رغم عبادته للأصنام! لأن الأصنام من خلق الله تعالى. ولأن الله تعالى قال في محكم تنزيله:(وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ). وقد فسر ابن عربي الآية الشريفة على أنها تعني أنك إذا عبدت أي شيء من الأشياء، فأنت تعبد الله تعالى وحده، من خلال عبادتك لتلك الأشياء. لأن الله تعالى قضى وقدَّر منذ الأزل أنك لن تعبد إلا إياه! وفي الحقيقة فإنه ما فات على ابن عربي أن يدرك المعنى الحقيقي لكلمة (وَقَضَى) في سياقها القرآني. فهو ولا شك من أكابر أمراء البيان وأصحاب الأذواق الرفيعة المترفة في تاريخ الأدب العربي. ولكنه تجاهل قصدا معنى الكلمة الصريح الواضح المباشر. إذ أتت كلمة (وَقَضَى) في الآية بمعنى: وأَمَرَ. فأصبح المعنى تبعا لذلك: وأمر الله تعالى ألا تعبدوا إلها غيره. ولقد قلنا إن معنى كلمة (وَقَضَى) كانت صريحة واضحة في سياقها القرآني، لأن باقي الآية يردف إلى الأمر الأول، المختص بالبعد عن الشرك، أمرا آخر، هو الإحسان إلى الوالدين. فقد قال الله تعالى في الآية الكريمة: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا) الإسراء:111. غير أن ابن عربي اتجه إلى تفسير الآية بهذا التأويل البعيد المشتط في البعد ليصنع منها دليلا يؤيد به عقيدتيه المنحرفتين؛ في وَحدة الوجود، ووَحدة الأديان. وقد تعرضنا في مقال سابق لاعتقاد ابن عربي الفاسد في وَحدة الوجود. فلنتحدث الآن عن اعتقاده الفاسد في وَحدة الأديان. وهو اعتقاد مترتب عن الاعتقاد الأول. وهو مذهب اعتقادي يستحق النقد الشديد في هذه الأيام بالذات. إذ يعجب به، ويؤمن به، ويكثر من الاستشهاد به المتفلتون عن الإسلام. وقد حمل ابن عربي هذا المعنى في نص شعري ذائع يقول:
لقد كنتُ قبلَ اليومِ أُنكرُ صاحبي إذا لم يكنْ دينِي إلى دينِه دانٍ لقد صارَ قلبي قابلاً كلَّ صُورةٍ فمرعىً لغزلانٍ ودَيرٌ لرُهبانِ وبيتٌ لأوثانٍ وكعبةُ طائفٍ وألواحُ توراةٍ ومِصحفُ قرآن أُدينُ بدينِ الحبِ أنَّى توجَّهـتْ ركائبهُ فالحبُّ ديني وإيمَاني!
وليعذرنا أمير الجهل (البروفيسور) أحمد مصطفى الحسين، الذي أخذ علينا ما سقناه في بعض مقالاتنا من أشعار المبتدعة التي عبروا بها عن عقائدهم. وربما كان (للبروفيسور) فكرة ساذجة عن الشعر، ورثها من دروس الإنشاء بالمدارس، علم منها أن الشعر يأتي في معرض الكتابة بغرض التحلية والتزويق. فهو من قبيل الحشو الذي يمكن حذفه من غير أن يتغير في المعنى شيء! ولذا طلب منا أن نتغاضى عن أبيات الشعر كلما كتبنا في مسائل الفكر. وهو طلب لا يمكننا الاستجابة له لسبب موضوعي يجهله أمير الجهل. وهو أن أصحاب العقائد الزائغة عبروا عن عقائدهم في الشعر، بأقوى مما عبروا عنها في النثر. ولنضرب أمثالا لهؤلاء في الحلاج، وابن الفارض، وابن عربي، والنابلسي، وفريد الدين العطار، وحافظ الشيرازي. فكلهم من أصحاب النظم الشعري الفني الرشيق. وقد استمدوا من جمال النظم وحلاوته سلطانهم وتأثيرهم الكبير على قلوب الناس. ومن قبل لاحظ العلامة الدكتور محمد إقبال أن هؤلاء ما غلبوا على أعمال ابن تيمية العقلية المنطقية الصارمة إلا بسحرهم الشعري القوي. وعودا إلى فكرة التسيير التي تذرع بها ابن عربي الحاتمي، وتابَعَه فيها تابِعُه محمود محمد طه، لأجل استباحة الكفر، وتسويغه، وتسويقه، نورد قول الله تعالى الذي سجل منطق أسلاف هذين الرجلين وحجتهم، ورد عليها بأقوى رد. إذ قال جلَّ من قائل:(سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ) الأنعام:148. ومعنى الآية كما يقول المفسرون الحاذقون: هل اطلع من اجترح هذه الدعوى الغريبة على علم الله تعالى؟! وهل قرأ ما في اللوح المحفوظ وعرف ما كُتب فيه؟! فعلم أن الله تعالى قد قدر عليه أن يأتي بهذا التصرف الشركي فأتى به؟! هذا مع أن قدر الله تعالى غيب لا يعلمه إلا هو سبحانه وتعالى وحده. فإن قيل: لا لم يطلع أحد من هؤلاء على علم الله تعالى، ولم يعرف ما كتب في اللوح المحفوظ، فعندئذ لا يصح أن لأحدهم أن يتخرَّص ويقول: لقد كتب الله علي أن أُشرِك منذ الأزل. فأنا مسيَّرٌ لتنفيذ هذا القدر اللازم ولا خيار لي غير اتباعه. كما لا يجوز لأحد من الجانب الآخر أن يتخرَّص ويقول: " إن التسيير قد بلغ به منازل التشريف. فأسلمه إلى حرية الاختيار". وإنه قد أطاع الله حتى أطاعه الله. وإنه قد أصبح حيا حياة الله. وعالما علم الله. ومريدا إرادة الله. وقادرا قدرة الله. وأصبح الله. كما ادعى محمود محمد طه!
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة