عند وفاة والدة جمال الوالي الذي لا أعرف عنه سوى انه مليونير ورئيس نادي المريخ في ذلك الوقت.. قادني أحد اقاربي وهو أيضا مليونير الى العزاء ..في الواقع كنت لا أعرف الى من سنذهب ولم يكن يهمني ذلك .. كان منزله عاديا جدا من عدة طوابق لكنه ليس بشاذ ، حتى الأثاث من الداخل لم يكن شاذا بل هو كما في كل المنازل أثاث يبدو لي مستوردا من الصين ، المهم.. دخلنا الى الصالة الواسعة في انتظار الوالي حيث أخبرنا الخدم بأنه نائم وسيستيقظ بعد قليل.. كان معنا حوالى خمسة عشر رجلا ، وبعد نصف ساعة تقريبا نزل الينا الوالي في جلباب بسيط جدا ، وجلس الينا..وهو عموما كائن صامت ..قليل الحديث ..حذر جدا على ما يبدو ، لكن ما فاجأني حقا هو كمية التطبيل والمديح والثناء والدهنسة التي كانت تخرج من أفواه الرجال ، ذكرني ذلك النفاق بشعراء الدولة العباسية ، وهم ينظمون القصائد في الأمراء لتلقي المنح والهبات.. لكن ما سمعته حقا كان أسوأ من نظم القصائد ..بل كان تزلفا شديدا ..لا يليق برجل أمام رجل ، كانوا يتصرفون كما قال نزار قباني كالصبيان ، يتابعونه كالإله ، قضينا ثلث الساعة وهم يتزلفون وهو صامت لا يبتسم حتى.. لكن الاغرب من كل كل كل هذا ، أن اغلب هؤلاء كانوا أيضا أصحاب ملايين ، لقد علمت فيما بعد ان اصحاب الملايين يقدرون كثيرا التراتبية او الهرمية في درجة الغنى.. وأعتقد أن بعضهم كان يعالج بعض أزماته المالية من خلال جمال الوالي ، ومع ذلك فلا سبب منطقي وعقلي يبرر تلك الكمية من التزلف والاتضاع الاخلاقي .. قبلها بسنوات ذهبت في زيارة لأحد هؤلاء المليارديرات ، وهو رجل متواضع جدا وقد منحته إحدى الجامعات دكتوراه فخرية ، رغم ان الدكتوراه الفخرية تمنح لبعض من قدموا خدمات انسانية وثقافية وليس لكل شخص ، لكن المؤكد ان منح مليونير الدكتوراه الفخرية يعني التبرع بقدر كبير من المال للجامعة المانحة ، وفي كل الأحوال فالدكتوراه الفخرية ليست درجة علمية بل هي مجرد تشريف وتقدير معنوي وأدبي فقط ، جلسنا مع هذا الرجل المتواضع ، وكان معنا رجل أعمال معروف وهو ايضا من اصحاب الملايين ، لكنني فوجئت به يتزلف لذلك الرجل تزلفا واضح السخف والتملق ، بعد أن انتهينا كان فضولي يأكلني لأعرف سر هذا التملق ، وبعد بحث قصير أدركت ان الأول قد أقرض الثاني مليون دولار ولم يسأله بعد ذلك عنه ... في الواقع المجتمع السوداني صار خبيرا في التزلف والتملق ، بل وبما ان هذا صار ظاهرة فقط شرعنوه بمسمى كوميدي وهو كسر الثلج ، فعادي جدا أن تشاهد تزلف موظف لمديره في العمل ، وتزلف الاستاذ لناظر المدرسة ، وتزلف العضو لرئيس الحزب ، وتزلف المعارضة للحكومة ...الخ ... إن هذا المجتمع الذي كان يتغنى بالكبرياء والفروسية ، فقد كرامته بالكامل ، وفقد الرجال فيه أبسط قيم الرجولة ، وانتهى الأمر بالمجتمع ككل إلى مجتمع لا تحكمه سوى حسابات المصلحة. وأعتقد ان هذا شيء جيد بل وممتاز.. ففي حالة انفتاح الدولة اقتصاديا سيتلقى الشعب قيم وثقافة الرأسمالية بالقبول لأنها لن تكون غريبة عليه بل هي في دمه وعقله وقلبه ... إن ما شاهدته في الواقع تطور كبير ودرجة من درجات الوعى بنسبية القيم كالأخلاق والشجاعة والكبرياء والكرامة وهلم جرا.. جميل جدا أن تكسر قيم الأجداد التاريخية وتتمرد على الصيغ القديمة الموجهة للسلوك الفردي ..وترسم انت لنفسك ملامح سلوك يتناسب مع الزمن... زمن التذلف والنفاق وتملق..
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة