يترقب الوسط السياسي قريبا صدور كتاب جامع مانع عن اتفاقية السلام الشامل من افواه صانعيها بعد ان اكتملت فصوله وتحقيقه وتدقيق اللمسات الاخيرة ليضيف للمكتبة السودانية سفرا نوعيا يسد فراغا هاما في التوثيق والادب السياسي المعاصر. والكتاب رغم أهميته من حيث رصده الدقيق لفصول وتفاصيل المفاوضات والمواقف والخيارات التي وافقت عليها حكومة السودان الا انه تأخر كثيرا عن وقته لإستعصام صناع تاريخ اتفاقية السلام الشامل بالصمت النبيل وغير النبيل، وقد راجت من جراء هذا الفراغ روايات وكتب اصدرتها أطراف ثالثة لم تكن جزءً من التفاوض المباشر بين الطرفين ، ولعل أشهرها كتاب هيلدا جونسون وزيرة التعاون الدولي النرويجية الأسبق عن " اندلاع السلام في السودان" حسب عنوان الترجمة العربية الصادرة وكذلك كتاب الوسيط الكيني الجنرال سمبويا. وقد كرست هذه الكتب لإعادة ترسيم صورة البطولة والانتصار لضحايا الوهم والحرب والانحيازات التاريخية لمزاعم اضطهاد الجنوب المسيحي الأفريقي من قبل الشمال العربي المسلم. من المتوقع ان يحدث هذا الكتاب ضجة في الأوساط السياسية والإعلامية لكشفه للمواقف والأسرار لأول مرة . اذ انه استنطق صناع الحدث الرئيسيين مثل النائب الاول السابق لرئيس الجمهورية الاستاذ علي عثمان محمد طه وأكثر من خمسين شخصية اخري من المشاركين وشهود المفاوضات . ولم يكتف الكتاب بإستنطاق رموز الحكومة فحسب بل سعي لتوثيق شهادات بعض قادة المعارضة من التجمع الوطني الديمقراطي مثل مبارك الفاضل ومن العسكريين العميد عبدالعزيز خالد ، ومن جانب المؤتمر الشعبي تحدث ايضا الدكتور علي الحاج الذي وصف المفاوضات من قبل بأنها أشبه بالمناجاة لعدم وجود مضابط لمحاضر الاجتماعات موقعة من الطرفين. و يشرف علي مشروع الكتاب نخبة من أميز الأكاديميين و الباحثين وتم تحريره بأسلوب أكاديمي رصين ومحايد مكتفيا بإيراد الحقائق وفق السياق الموضوعي للأحداث دون تدخل او تزيد بالتحليل او اقحام وجهات نظر دعائية او شخصية. منذ انفصال جنوب السودان في العام ٢٠١١ تعددت الروايات والمزاعم والاتهامات التي صوبت سهام نقدها ضد الحكومة و الفكر السياسي السائد وسط الإسلاميين المتنفذين، وتلخص جوهر الاتهام ان الحكومة سعت وعملت لفصل جنوب السودان لتكريس سلطتها علي شمال السودان وتطبيق الشريعة الاسلامية والتخلص من عبء جنوب السودان الذي ظل يطالب بالعلمانية ويهدد مشروع الإسلاميين في الحكم. وفي ظل غياب المراجع والوثائق التاريخية استطال الاتهام بان اتفاقية او اعلان فرانكفورت بين الدكتور علي الحاج ممثلا للحكومة والدكتور لام أكول ممثلا لفصيل الناصر قد اتفقا علي حق تقرير المصير لجنوب السودان. وذهب هذا الزعم ليكون دليل تاريخي علي تآمر الحكومة والإسلاميين لفصل جنوب السودان. وان هذا الإعلان بمثابة دليل عملي علي رجعية فكر الاسلام السياسي الذي يقوم علي اعلاء شأن الرابطة العقدية والتطبيقات الشرعية علي الوحدة الوطنية. سلط الدكتور سلمان محمد احمد سلمان الضوء في كتابه "انفصال جنوب السودان ودور القوي الشمالية"، علي هذه القضية وقال ان ديباجة اعلان فرانكفورت الذي تم توقيعه في يناير ١٩٩٢ قد نصت علي ان يمارس شعب جنوب السودان حقه ليختار النظام الدستوري والسياسي الذي يناسبه. ويقول الدكتور سلمان ان اعلان فرانكفورت لم ينص صراحة علي تقرير المصير لكنه اشتمل علي اهم مقومين لتقرير المصير. هما الاستفتاء وعدم استبعاد اي مقوم اخر. وأشار في كتابه ان اعلان فرانكفورت اخرج مارد تقرير المصير من القمقم. وتساءل البعض من أعطي الدكتور علي الحاج التفويض والسلطة لإعطاء شعب جنوب السودان حق تقرير المصير؟. ولم يشفع للدكتور علي الحاج انه تهاتف مع الزعيم الراحل الشيخ حسن الترابي ورئيس الدولة عمر البشير. وقال البعض ان تقرير المصير تم عبر مكالمة هاتفية بين الترابي وعلي الحاج كأن مصير ومستقبل السودان عبارة عن ضيعة خاصة لكليهما كما أورده د. سلمان في كتابه. اشترك في مفاوضات فرانكفورت الي جانب الدكتور علي الحاج وبقية الفريق المعاون السكرتير الاول وقتها والسفير الراهن محمد حسين زروق. وهو كفاءة سودانية معتبرة في مجال القانون والعمل الدبلوماسي. ورغم صغر سنه آنذاك الا ان خبرته القانونية وحنكته الدبلوماسية أنقذت الوفد من مطاعن تقرير المصير، اذ تولي السفير زروق كتابة مسودة اعلان فرانكفورت واقترح ادخال مصطلح " المشاورات" غير الملزمة لشعب جنوب السودان بدلا عن كلمة الاستفتاء . كان الدكتور لام أكول آنذاك حريصا علي كتابة عبارة تقرير المصير عبر الاستفتاء في الإعلان حتي يستخدمه فصيل الناصر لسحب بساط الشرعية من قرنق واقناع شعب جنوب السودان ان فصيل الناصر هو الاقدر من قرنق علي تحقيق تطلعاته نحو الاستقلال. في حديثه داخل المفاوضات قال لام أكول ان تقرير المصير مطلب تكتيكي فقط ولن يتم استخدامه قط في مواجهة الشمال. وافق الرئيس البشير والترابي وعلي عثمان علي مقترح السفير زروق بالنص علي المشاورات غير الملزمة بدلا عن الاستفتاء. كان الملياردير البريطاني تايني رولاند الملقب بملك افريقيا قد قام بنقل الوفد بطائرته الخاصة من لندن الي فرانكفورت، وعندما جاء تيلار دينق وقرأ المسودة انفجر بالبكاء معترضا علي المصطلح البديل وأصر علي النص صراحة علي حق تقرير المصير عبر الاستفتاء. اقترح السفير زروق كلمة Plebiscite اي المشاورات بدلا عن Referendum اي الاستفتاء . وتعني هذه الكلمة استخدام حق التصويت دون اي الزام قانوني بنتائجه. وهي من اقدم أنماط الديمقراطية الشعبية التي اشتهر بها نظام الكانتونات السويسرية منذ القرن السادس عشر الميلادي. كما ان كلمة Plebiscite تعني ان نتائج التصويت ليست لديها القوة القانونية لتغيير الوضع الدستوري علي عكس كلمة الاستفتاء التي تعني ان الرأي الغالب ملزم وله قوة تغيير الدستور. للأسف لم يطلع كثير من الباحثين علي النسخة الأصل من اعلان فرانكفورت لان النسخ التي تم توقيعها بواسطة الطرفين كانت محدودة العدد والتداول. لذا كثر التخمين والتحليل. لكن بمراجعة النص الوارد في الإعلان فإن كلمة تقرير المصير او الاستفتاء لم ترد مطلقا في اعلان فرانكفورت و ينسف هذا تلقائيا كل الادعاءات والمزاعم بان اول من أعطي حق تقرير المصير هو الحكومة الحالية. عندما تم عرض المسودة علي الدكتور لام أكول طلب استشارة قانونية وكذلك مراجعة القاموس القانوني الانجليزي، ومن ثم وافق علي مقترح الجانب الحكومي الذي أعد مسودته السفير محمد حسين زروق. ومن خلال الوقائع التاريخية فإن مؤتمر اسمرا للقضايا المصيرية ١٩٩٦ يعد اول اعلان يعترف بحق تقرير المصير لجنوب السودان، هذا رغم ان الدكتور سلمان قد اشار في كتابه ان اول إشارة صدرت في هذا الصدد وردت في قرارات المكتب السياسي للحركة الشعبية في توريت بعد انشقاق مجموعة الناصر عام ١٩٩١. لن يكتمل توثيق هذه الحقبة الهامة من تاريخنا السياسي حتي يدلي شهود العصر من صناع الحدث بشهاداتهم مكتوبة او منطوقة، ولعل اهم اثنين يقع عليهما عبء التوثيق لإعلان فرانكفورت واتفاقية السلام الشامل هما السفير محمد حسين زروق والأستاذ سيد الخطيب. لكن بصدور الكتاب المنتظر عن اتفاقية السلام الشامل خلال الأسابيع القليلة القادمة وهو يشتمل علي شهادات اللاعبين الاساسيين وعلي رأسهم الاستاذ علي عثمان محمد طه سيضع النقاط فوق الحروف ويفتح بابا جديدا للجدل السياسي المبني علي المعرفة والعقل والحجاج العقلي لا التخرصات والاوهام وسوء الظنون والاغتيال المعنوي
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة