ولأننا نقدم شهادة وليس رأياً .. فإننا نسرد الاسماء والاحداث والمكان والزمان ولأننا نيأس من انتظار من لا يفهمون فإننا نتخلى عن اسلوب (نقطة سطر) الى الاسهاب ولأننا نردد ان كل احداث اليوم هي فروع واوراق لاحداث الامس فإننا نسرد احداث الامس.. الاحداث التي تقدم تفسيراً دقيقاً لما يجري اليوم والحلقات الثلاث الاخيرة تطلق الردود .. والجدال نسوقه بعد نهاية الحلقات القادمة *** العودة اللغة السياسية القديمة التي تقتل بهمس مهذب كانت تختفي ..واللغة السياسية الجديدة التي تصرخ بالعنف تولد في العالم كله..(يومئذٍ) وعام 1965 لما كانت القضية الفلسطينية ترسل الرصاصة الاولى في فجر يناير كان الدكتور محمد صالح عمر يشرع في اقامة منظمة اسلامية مسلحة في السودان .. ويرسل ثماني دفعات الى معسكرات الفدائيين في الاردن تحت شتاء صاعق.. والدفعات التي عبرت الطريق ذاته الذي عبر به جيش خالد بن الوليد قبل اربعة عشر قرناً.. لانقاذ المسلمين المحاصرين.. كان يعجبها ان تشعر انها تسلك طريقاً لمهمة مماثلة. لكنه كان خطأ قاتلاً ان الدفعات الثماني لم يتعرف فيها احد على احد.. وهكذا كان الخطأ هذا يجعل الفئة الوحيدة المقاتلة تقف معزولة تماماً عن القتال عند الحاجة اليها ايام الجزيرة ابا وايام عملية 1976م. العنف في العالم كان يولد كذلك بين الجيش الاردني والفدائيين نهاية الستينيات. وأيتا.. والطوبو ماروس والالوية الحمراء والفهود السود ومئات الاسماء لمئات المنظمات تتدفق من انحاء العالم كله.. وكلها منظمات أصبحت تتبنى العنف المسلح. .. وآخر ايام السياسية القديمة الهامسة كانت الخرطوم تشهد جزءاً منها ومن ميلاد العنف الجديد.. والحفل الدبلوماسي الانيق والشديد الهدوء في سفارة السعودية كان هو المسرح.. وافراد منظمة ايلول الاسود يقتحمون السفارة السعودية ويقتادون سفيراً غربياً لدولة ضخمة لإعدامه.. عام سبعين. والسفير.. الدبلوماسي القديم.. حين تلقى امر المهاجمين بالذهاب معهم لاعدامه لم ينس ان يلتفت الى صاحب الدار السفير السعودي ويحييه بالجملة التقليدية التي يقولها كل ضيف للمضيف عند الانصراف الهادئ آخر الليل. : شكراً سيدي السفير.. لقد كان حفلاً بهيجاً..!! قالها بهمس الدبلوماسي المهذب المبتسم!! والسفير السعودي يستمع مصعوقاً واعدموه.. كان العالم القديم هو الذي يعدم.. واللغة السياسية الجديدة التي قدمها الشيوعيون للعالم.. العنف الثوري.. تولد.. وغريزة البقاء تدفع كل جهة للعنف المضاد. وهكذا لم يكن غريباً ان تتلاطم امواج الرصاص منذ بداية ايام النميري.. والقتال يشتعل في الجزيرة وام درمان.. ثم العاصمة كلها.. ثم .. ثم.. *** المحاضر المثقف الذي تحمل خدوده شلوخاً عريضة ومرحاً دائماً كان يتنسم رائحة الخريف المسلح من بعيد.. وهكذا كان انصراف محمد صالح عمر الى التدريب عملاً يمضي بمنهج محمد صالح عمر.. وهو يقيم منظمته الخاصة دون ان يعلم احد.. وقبل مجيء النميري بخمسة اعوام. حتى قيادة حركة الاخوان المسلمين لم تكن تعلم، فحتى وقت بعيد من منتصف الستينيات كانت الدعوة تبحث عن تعريف دقيق لمنهجها وهيكلها.. وما تريد ومثل صراعات المراهقة كانت الحركة الاسلامية تتخطى الازمة الاولى لما قامت قيادتها تتحدث بقاموس يساري وشخصيات قيادية فيها مثل (ميرغني النصري وعبد الله زكريا وبابكر كرار والرشيد الطاهر و.. و..) يترضخون لكنة سوفيتية. والدكتور الترابي يغلق ابوابه لايام ثم يخرج برسالة من عشرين صفحة يرد فيها على افكار بابكر كرار. ثم تنشق القيادة ويمضي ثلاثة عشر شخصاً من المكتب القيادي يساراً والآخرون يميناً. والسؤال عن ( من نحن) يجعل بعثة يقودها الرشيد الطاهر تذهب الى مصر للقاء المفكر سيد قطب.. ومصر ترسل مفكرين منهم عبد الباقي عمر عطية وعبد الشكور عمر عطية. ثم ينتهي التقارب الفكري الى اغرب نتيجة. ينتهي الى الانفصال الكامل عن الحركة المصرية.. وتبدأ قيادة الترابي.. لكن عبد الشكور الذي جاء قبل سنوات كانت خطاه تقوده بعد ذلك بسنوات الى السودان لتدريب المقاتلين في الجزيرة ابا وجدال الاسلاميين ينتهي الى محمد صالح عمر ومعسكراته. كان الأمر رداً قدرياً غريباً يعلن لكل احد ان اللسان لم يعد يصلح وحده للبقاء.. وانه لا بد لكل (مكة) من ان تعقبها (المدينة)!! وان من لا يتحدث مع العالم بلغته .. يهلك. والدكتور محمد صالح عمر لم يخطر له ان الطلاب الذين كانوا ينظرون اليه بانبهار عام 1956 هم الذين سوف ينطلقون ما بين الجزيرة ابا عام 1970 وبين الخرطوم عام 1976 مروراً بنصف عواصم المنطقة العربية يحملون منهجه. الدعوة المقاتلة. والطالب مهدي ابراهيم الذي كان في السنة الثانية.. طالباً جامعياً.. عام 1965م سوف يكون الذراع اليمنى لمحمد صالح عمر في الجزيرة. وحين فشلت الجزيرة كان طلاب آخرون يشرعون في العمل للجولة الثانية. *** شتاء عام 1973 كان بارداً وكلية الزراعة.. شمبات.. كانت تشهد انساً طلابياً عابراً.. والشاب فتحي السيد كان يضاحك بعض الطلاب هناك ومنهم محمد الصديق علي.. ومن خلال الضحك كان يبلغهم انهم مدعوون للالتحاق بالنظام الخاص (الجناح المسلح للحركة).. وكانت خلايا اخرى قد شرعت في العمل. ولما كان الطالبان علي خضر وعبد الله احمد يوسف يتسللان لاحراق احد اكشاك المقامرة (توتو كورة) في شمبات كان الطالب الاغبش.. والطالب عبد الله ميرغني.. الشهيد بعد ذلك.. يتسللان لاحراق كشك آخر في المحطة الوسطى. ولم يكن الطلاب يعلمون ان الهدف انما كان احراق الرهبة في نفوسهم وليس احراق الاكشاك. وشتاء العام التالي يشهد معسكرات يشرف عليها احمد ابراهيم الطاهر ويديرها محمد علي ابو حريرة وكان هناك عمر سليمان وحافظ جمعة سهل وعبيد ختم والمفتي.. وشتاء العام التالي يشهد اول دفعة تتجه الى خارج السودان الى الهدف الاكبر. الخامس من ديسمبر 1975 كان يشهد طلاباً محرمين يتجهون الى الحج. وفي معسكر( اكبر) الشهير الذي يقام فوق (منى) كان ثلاثة رجال يدخلون معسكر الطلاب بعد لحظات كان الطلاب يحدقون في الوجوه التي يعرفونها جيداً.. مهدي ابراهيم وعثمان خالد.. وود الفضل. وكان الحديث شيئاً لا يحتمل الاسئلة فقد كان القرار هو المعسكرات ثم القتال.. ومن رضى بايع الآن عن بينة.. ومن ابى انصرف الآن عن بينة.. في معسكر العقبة لم ينصرف الا ثلاثة. وفي معسكر مصر.. لم يبايع الا واحد .. وكان هو عبد الاله خوجلي.. كان جيش يوليو المجاهد يبدأ وكان جيش آخر يعمل في الخرطوم. جيش المصادفات الغريب. بعد ايام الحج بخمسة شهور ولما كان المقاتلون يتسللون الى الخرطوم (ستمائة وخمسين) كانت مصادفة تفسد كل شيء. ضابط صغير من جهاز استخبارات النميري يلتقط نسمة عن اجتماع هامس في شمال ام درمان.. والمجتمعون يجري اعتقالهم. وحتى بعد ذلك اليوم بسنوات كان الجميع يجهلون تماماً ان اعتقال المجموعة هذه كان هو الذي جعل جانباً ضخماً من الخطة ينهار. الاجتماع كان يضم المجموعة التي تدير المساندة الشعبية للهجوم المسلح.. واعداد الخلايا للمظاهرات واشعال العاصمة ضد النميري. وهكذا كان الهجوم المسلح الذي نجح فعلاً في احتلال كل شيء يتلفت وهو ينتظر المساندة الشعبية.. فلا يجد مثلما ظل ينتظر هدير الاذاعة المحتلة فلا يسمع شيئاً.. ثم يفاجأ باذاعة جوبا تعمل على امواج امدرمان ضد الهجوم المسلح هذا. لكن المصادفة التي جعلت استخبارات النميري تقع على بيت ام درمان لم يخطر لها ان بيوتاً كثيرة كانت ترقد صامتة على المجموعات المسلحة. وفي بري اللاماب كانت مجموعة من ثلاثة وثلاثين شاباً تحتضن اسلحتها لاسابيع ثلاثة.. تنتظر ساعة الصفر ولا تعلم متى هي. في الثالث من يوليو كان شاب تركي الملامح ينضم الى المجموعة اسمه غازي صلاح الدين.. ثم عبد الفضيل.. ثم عبد الرحمن ابراهيم. كل ما كان الشباب الثلاثون يعلمونه هو ان عليهم ان يحتلوا مطار الخرطوم ودار الهاتف. في الايام الثلاثين كان المسرح يستعيد حكايات الطريق الطويل الذي تسللوا عبره عائدين الى السودان عبر مصر ثم السعودية ثم اثيوبيا. *** الانصار كان الشريف الهندي وعثمان خالد قد نجحوا في ادخالهم الى السودان عبر عربات اللواء الذي كان يشغل منصباً رفيعاً في حكومة النميري وباشراف منه اغلبهم سودانيون طردوا من ليبيا. لكن ملامح المجاهدين الاخوان ووجوههم كانت شيئاً معروفاً.. وهكذا كان السفر الطويل. وفي السفر كانت النكات كانت الامطار عنيفة وهم يتسللون الى قرية فندر الاثيوبية.. وهكذا كان عوض جادين. مدير سوناالآن.. وحسن عبد الرحيم وآخر اسمه عبد الغفار ينتظرون العشاء في الفندق الصغير.. وحين انسكب الماء على ثوب الفتاة التي تقوم بخدمتهم مضت الفتاة ترفع ثوبها ببساطة اثيوبية لتفاجا بالشباب امامها يكاد كل منهم يكسر عنقه وهو يرمي بوجهه بعيداً عن بطنها المكشوف. وكاد شيء آخر ان يكشف هوية الشباب هؤلاء وفي الصباح يكتشف الشباب ان الطريق تقطعه عصابات الشفتة.. ثم جاء الحل الذكي باستئجار عربة يملكها زعيم منهم.. وهكذا اصبح الشفتة حرساً شخصياً للشباب في رحلتهم حتى المتمة. في المتمة كان كل احد ينهمك قبل الفجر في عملية التنكر للدخول .. وهكذا كانت الامواس تذهب بالشعر.. والملابس المعتادة عندهم يلقى بها.. ليرتدي كل واحد منهم قميصاً (عراقي) من الدمورية.. وحذاء (مركوباً) قديماً. حين وقف طابور الشباب المتنكرين امام دليلهم.. وكان فتى من الانصار من اهل المتمة.. ينظر اليهم بدقة لتقف عيونه عند احدهم.. ثم يقول ساخراً. .. كلكم كوسين.. لكن دا وش الثقافة ظاهر عليهو. واشار الى احدهم وكان ناعم المظهر.. وكان هو عبد الله التجاني. alintibaha
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة