تداخلت بهذه الأسطر رداً على الأخ المهندس عمر الدقير رئيس حزب المؤتمر السوداني الذي كتب متحسراً على انفصال الجنوب بمناسبة الذكرى الخامسة لذلك الحدث المدوّي الذي أسعدنا نحن في منبر السلام العادل كما أسعد وأفرح كثيرين من خارج المنبر انعتقوا من أسر تلك العاطفة المجنونة، لكنه أغضب آخرين لا يزالون قابعين في محراب تلك الوحدة الملغومة التي لم يجنِ السودان منها غير الدماء والدموع والتخلف.. وحدة فرضها عليهم مستعمر لئيم لم يرد بنا خيراً حين عطّل مسيرة السودان خدمة لأجندته الشريرة. تساءل الأخ عمر بلغة رفيعة وبيان ساحر: (كيف لوطن تشكل من عناق التاريخ والجغرافيا وتساكن أهله باختلاف مشاربهم زمناً طويلاً أن ينشطر مثل كعكة رخوة)؟! عاطفة مشبوبة دفقها الأخ عمر الدقير بقلب ينبض بحب عذري أكثر صدقاً من عشق قيس لليلى وجميل لبثينة وكثير لعزة، ولكنه للأسف عشق عاطفي يمتطي صهوة شعر الغواة اللاهين عن حكمة العقل المتبصّر الهائمين في كل واد القائلين ما لا يفعلون. أي (عناق) أخي عمر للتاريخ والجغرافيا ذلك الذي تذرف عليه الدمع السخين الذي أخشى أن يحيلك إلى حرض أو يجعلك من الهالكين كما خشي أبناء يعقوب على أبيهم يعقوب المتيّم بحب ابنه يوسف، الحزين لفراقه الأليم، وأي تساكن قام بين أهل السودان باختلاف مشاربهم زمناً طويلاً، ثم ألم تكن الوحدة بين الشمال والجنوب أوهى من (كعكة رخوة) لم تزدها عمليات الترقيع والتلصيق التي ابتدَعتْها البصيرة أم حمد إلا هشاشة ورخاوة؟ أخي عمر .. ليتك لو قرأت بتعمق قبل أن تكتب مقالك البليغ تاريخ العلاقة بين الشعبين الشمالي والجنوبي وكيف (لصق) المستعمر الجنوب بالشمال كما تلصق الشحمة بالنار والليل بالنهار أو كما يزوج القط من الفأر . لو استوثقت من أضابير التاريخ لعلمت أن المستعمر الإنجليزي ممثلاً في السكرتير الإداري البريطاني جيمس روبرتسون والذي نظم ورأس مؤتمر جوبا عام 1947 ليُشرعِن الوحدة بين الشمال والجنوب هو الذي زوّر ذلك المؤتمر واعترف في مذكراته فيما بعد بذلك التزوير الذي (قرر) رغم أنف الشعبين المستعمَرين (بفتح الميم الثانية) أن يوحّد الجنوب بالشمال، وكان قبل ذلك يفكر في خيارات أخرى من بينها (لصقه) مع يوغندا أو تركه نهباً للصراع الذي نراه محتدماً اليوم بين قبائله وإثنياته المختلفة. أي تساكن ذلك الذي تتحدث عنه أخي عمر؟ أهو ما انفجر حمماً من الحقد والتطهير العرقي ضد الشماليين في توريت و12 مدينة ومركزاً في وقت واحد قبل خروج الإنجليز من السودان؟ تمرد توريت طال المدنيين وفيهم النساء والأطفال وشهدت وقائع التاريخ أن الطفل الشمالي كان يُقذَف به إلى أعلى ويستقبل بالسونكي ليمزق أحشاءه وقد زرتُ توريت عام 1998 ووقفتُ على مقبرتها وترحّمتُ على الشهداء، وليتك زرتَ واستمعت إلى الحاجة أم الحسن في أم دوم والتي أنقذها الله اللطيف الخبير، وقد كانت وقتها طفلة صغيرة، لتحكي ما شهدته في تلك المجزرة المروّعة. ليس صحيحاً أن الجنوبيين وافقوا على الوحدة في منتصف القرن الماضي ..الصحيح أنه خلال مؤتمر المائدة المستديرة عام 1965 عقب ثورة أكتوبر ، رضي أحد فصيلي سانو (وليم دينق) بالفيدرالية، لكن الفصيل الإخر الانفصالي بزعامة أقري جادين، والذي كان الأكثر تعبيراً عن مشاعر الجنوبيين ، رفض وانسحب من المؤتمر وكانت الحرب وقتها مشتعلة منذ تمرد توريت ولم تتوقف حتى عندما وُقعت اتفاقية أديس أبابا مع الرئيس نميري عام 1972 (راجع الوقائع بالتفصيل في مذكرات وكتاب اللواء صديق البنا قائد المنطقة الإستوائية). نواصل
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة