على الرغم من الندوات الشحيحة لبعض رموز قحت ببعض الأحياء، إلّا أن الهوة قد اتسعت بينها وبين لجان المقاومة بعد رضوخها للوسيط السعودي، ودخولها في حوار مغلق من أجل إصدار وثيقة شراكة جديدة بينها وبين العسكر، الخطوة المتسرعة التي تشبه إلى حد كبير سابقتها المتخذة بعد ارتكاب الجرم الشنيع بفض اعتصام ميدان القيادة، فالسياسيون الذين لم يخرجوا من غرف النوم، لن يصبحوا بأي حال من الأحوال ثائرين يخوضون معارك القنابل المسيلة للدموع، وهكذا تخبرنا تجاربنا البائسة مع التركة الثقيلة للمجموعات الحزبية المستغلة لغضب الشارع في الاستوزار ومهادنة الدكتاتوريات العسكرية، فمنذ عهد بعيد أدمنت هذه الكيانات القديمة غير المتجددة مص دماء وعرق الشهداء، وتحويلها لمكاسب ذاتية ومصالح ضيقة دون الوفاء لشعار الثورة، فالتحجر والتقوقع والانكفاء جعل من هذه القوى السياسية التقليدية عبء ثقيل ينوء بحمله الثوار التلقائيون في كل العصور والأزمنة، وفي المقابل تجد الحيوية والنشاط والمواكبة والوعي بالحقوق المدنية، تستحوذ على عقول المراهقين الصغار الذين يستشهدون كل يوم في سوح وميادين الأحياء، هذا التباعد الملحوظ بين محددات العقلية القديمة واتجاهات الفكر الثوري الناهض الجديد يصعب ردم هوّته، فقط يمكن للأشبال الموجودين داخل هذه الكيانات المهترئة، أن يهبّوا بثورة عارمة وكاسحة ماسحة ليحيلوا أوكار الكسل والتكلس والتكدس المقيم إلى طاقات إيجابية. التجديد سنّة كونية حتمية لا مناص منها، واستطالة إقامة الجمود الفكري لدى ورثة الأصنام القديمة لابد وأن تثيره أصوات الحناجر اليافعة، فكل التحولات الثورية الكبرى حول عالمنا قادها شباب عشرينيون وثلاثينيون من أمثال تشي جيفارا ونلسون مانديلا، وليس من الرشد أن يعتقد رموز مركزية الحرية والتغيير بأنهم سيحققون الحرية والسلام والعدالة، لأنهم ببساطة أكلوا من فتات موائد الدكتاتوريات العسكرية الناحرة لقيم العدل واللّاجمة لأحصنة الحريات الجامحة، وكانت تجربة الثلاث أعوام التي أعقبت إسقاط رأس النظام (البائد)، خير مثال لخطل تمترس العقلية الماضوية عند المحطة الأولى، دون أن تجدد نفسها لتواكب طموحات جيل الحاضر، فكان الأهتمام بالوجاهات البيروقراطية المتوارثة والتباري لنيل جوائز مسابقات فنون الخطابة المفقودة، ومن عسف وبؤس منتوج العقلية القديمة تأخير البت في ملفات العدالة وإزالة التمكين الحزبي (البائد)، وهنا لابد لكل وطني غيور أن لا يتسامح مع من ماطل وسوّف وأهمل هذه الملفات المحورية في مشروع ثورة ديسمبر، ولا قدسية إلّا لمن دُفن وجُرح وفُقد، أما الناطقين باسم تكليف استرداد حق المدفون والمجروح والمفقود، لاقداسة لهم، وعلينا وعليهم أن لا ننسى أننا مجرد خادمين للقضية، وأن لا نزايد ولا نناقص ولا نساوم ولا نرابي في الأهداف العليا للثورة، ولا فضل لقحّاتي على مقاوم إلّا بقدر ما قدم من دم. عملية نمو الظفر الجديد وإزاحة خلاياه الناشئة للخلايا البالية لا يبدأ بالاستشارة والاستئذان، إنّها عملية طبيعية تحكمها قوانين الانتخاب الطبيعي، فمهما اشتكت وتمسكت الخلايا القديمة بأهداب الأصبع فإنّها لا محال زائلة، هذا هو مَثلُ المقاومة النابتة بقوة من تحت أعماق تربة الوطن والإنتهازية السياسية القديمة العقيمة الجالسة على القمة دون ممسكات تربطها بالجذور، وكما أزاح ضعف الانتقال الأول – قبل وبعد الانقلاب – الستار عن عدم أهلية من تقدموا الصفوف على حين غرّة، كذلك سيُصدم الأغرار المتفائلون بضخامة خطاب رموز مركزية قحت بمشهد سوداوي مأساوي قاتم، تتجلى فيه كل إفرازات العطب المتراكم عبر الحقب والسنين، فقراءة إرهاصات الجو العام للحراك ليست بحاجة لضارب رمل أو قاريء فنجان، فالمآلات لها شجر يسير يراه كل ذي بصيرة وبصر، وكما يقول البسطاء من أهلنا (النيء للنار)، وكل الدلائل تشير إلى أن رائحة الشواء النيء حتماً ستفوح من القدر الذي تطبخ فيه (وثيقة الحكم المدني) على نار مستعجلة تحت التربيزة، وتباعد المسافة بين الشباب الذين يزفون استاذهم الجامعي شهيداً بجسد مرصع بحبات مقذوف البندقية (الخرطوش)، وبين المتأنقين الذين أحرموا وبدءوا طواف حج الثورة من أجل دنيا يصيبونها ستزداد شُقّته أكثر فأكثر، ولن يربح الرهان إلّا من خرج من دهاليز الحماية المنزلية إلى سوح المواكب الميدانية.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة