منذ ان بدأت الارهاصات حول التسوية ظل الجميع يترقب تفاصيلها. ولكن حقيقة الأمر ان التفاصيل رغم اهميتها، الا انها ليست هى الشيطان الرئيسي. فمهما كانت البنود التى سيتم التوصل إليها جيدة او سيئة فى ميزان مختلف الاراء، فإن الشيطان هو فى عقبة إمكانيات التطبيق. ولذلك فإن التحديات التى تواجه التوصل الى التسوية لا تنفصل كثيرا عن تحديات تنفيذ اى بنود لتلك التسوية اى كان نوعها. فكما جربنا فى فترة الانتقال بعد الثورة، فشلت الحكومة الانتقالية فى تنفيذ الجيد من الاتفاق مع العسكر اكثر من فشلها فى تنفيذ السيئ. لذلك فإن تحليل الساحة السياسية ومظاهرها الحالية التى وضحناها بشكل مختصر ومخل ربما، تشكل أيضا تركيبة التحديات التى تواجه التسوية. والتى يمكن تلخيصها فى الاتى:
١. أزمة الثقة: وهنا نرى خريطة معقدة جدا لعلاقات انعدام او اهتزاز الثقة بين مختلف القوى الموجودة فى الساحة السياسية. وقد زادت فترة الانقلاب من هذا التعقيد. فهناك اهتزاز ثقة بين الجيش والدعم السريع، وانعدام ثقة بين الإسلاميين والدعم السريع. هناك اهتزاز ثقة كبير بين الإسلاميين والجيش بعد فشل الأوائل فى صناعة دعم شعبى للجيش او تحشيد قوى تدعم الانقلاب. كذلك هناك حالة انعدام ثقة بين الجيش وقوى الحرية والتغيير، وبينها وبين لجان المقاومة وبينها وبين الحركات المسلحة. اما لجان المقاومة فقد فشلت فى كسب ثقة جماهير أوسع خلال الفترة الماضية. لذلك فإن أزمة الثقة التى يتسم بها الواقع السياسى الراهن تظل هى العامل الأخطر الذى سيهدد الوصول لتسوية وتطبيقها اذا حدثت. وهناك خطوط عديدة من أزمات الثقة تتفاعل داخل هذه الخارطة قد تؤدى بشكل عشوائي او شبه عشوائى الى انفجارات كثيرة وعقبات مختلفة فى الطريق. حتى المجتمع الدولي يعانى من اهتزاز ثقة في القوى السياسية السودانية بشكل عام، لذلك فإن وقت أطول سيتم استغراقه من قبل القوى الداعمة للتسوية نفسها قبل بذل دعمها للأطراف المختلفة، اذ سيكون هناك متطلبات إظهار جدية او شروط يستوجب على القوى السياسية التى ستوقع على التسوية الوصول إليها اولا.
٢. انعدام الرؤية الواضحة لتطبيق ما سيتم الاتفاق عليه : هناك مشكلة كبيرة في طريقة صناعة التسوية التى اتخذت نهج مشابه لصناعة الوثيقة الدستورية ٢٠١٩. فهناك ضبابية حول وسائل التطبيق. فالنص الذى يتم تداوله لورقة الحرية والتغيير لا يحمل تفاصيل واضحة كما ان دستور نقابة المحامين يضع خطوط عامة ولكن لا توجد آليات واضحة لكيفية اختيار الوزراء وكيفية تشكيل المجلس التشريعي الانتقالي حسب ما نشرته الحرية والتغيير للان. فمجرد الحديث عن التمثيل لكل القوى السياسية والاجتماعية والأثنية لا يكفى كنص، فالنص يجب ان يكون مصحوبا باليه تنفيذ. فقد كانت اهم عقبات تشكيل البرلمان الانتقالى إبان الفترة الانتقالية هو عجز القوى السياسية عن صناعة آلية فعالة لترشيح وحسم اختيار أعضاء المجلس. هذه الأزمة تنعكس أيضا فى مجلس الوزراء والولاة وبقية المناصب. لذلك فإن تحديات كبيرة سوف تنشأ فى عمليات تنزيل التسوية الى الأرض. واذا لم يتم وضع آليات اختيار واضحة تحمل فى داخلها وسائل دقيقة لتشكيل الحكومة والمجلس التشريعي، فإن البلاد ستراوح مكانها. وسوف نعيش أزمة مشابهة للبنان والعراق حيث لا توجد هناك حكومات لسنوات، وقد مر علينا عام بالفعل دون حكومة. واذا حدث ما نخشاه فان الجيش سيستمر كحكومة امر واقع لفترة أطول مما يجب.
٣. غياب الدعم المالى الكافى : من المعلوم جيدا ان هذه التسوية مدفوعة بشدة من المجتمع الدولى تحت ضغوط تتصل بتواريخ التزامات إعفاء الديون وإغلاق ميزانيات بعض الدول التى قد تنهى الدعم المالى الذى تقرر للسودان فى ميزانيتها للعام السابق قبل الانقلاب. ولذلك فإن الجانب المالى له أثر كبير جدا على المشهد السياسى وكيفية إنقاذ الاقتصاد الذى وصل حالة ركود تام. هذا إضافة الى الوضع الإنسانى الذى وصل مرحلة مرعبة. فتقرير الأمم المتحدة الاخير أوضح ان ثلث السودانيين وصلوا مرحلة الجوع. اى اكثر من ١٥ مليون نسمة بحاجة الى معونات انسانية عاجلة بقيمة ٢ مليار دولارلم تحصل منها الأمم المتحدة الا على ٤٠ فى المائة مما اضطرها الى إعطاء النازحين نصف حصص الغذاء فقط الشهر الماضي . وكانت معظم وعودات الدعم الدولى لا تتعدى ال ٥ مليار دولار أثناء الانتقال، فى الوقت الذى لم تتأكد اى اموال واضحة لدعم تنفيذ عملية السلام. وقد كانت مجلة فورين بوليسى فى يونيو الماضي نشرت تقرير مفصلا بعنوان " كيف خذل المجتمع الدولى عملية الانتقال فى السودان". وقد وضح المقال ضعف آليات التنسيق وازمات كثيرة تتعلق بالحكومة الانتقالية نفسها. لذلك فإن الدعم المالى هو أقوى كرت يمكن ان ينقذ اى عملية تسوية او انتقال ناتج عنها، وهو أيضا الكرت الذى قد يؤدى الى فشل اى اتفاق مرتقب.
٤. تحدى الجيوش المتعددة والأمن واحتمالات الحرب الأهلية: بعد عام من الانقلاب اعلنت الأمم المتحدة فى تقريرها الاخير عن الأوضاع الإنسانية فى السودان انها سجلت أكثر من ٢٥٠ حادثة اقتتال أهلى فى مختلف مناطق السودان بين يناير وسبتمبر ٢٠٢٢. هذا إنذار خطير يوضح ان احتمالات الحرب الأهلية فى السودان تزداد يوم بعد الاخر. ومع تعدد الجيوش وعدم وجود حلول واضحة لوجود مليشيات الدعم السريع واليات محددة لدمج قوات الحركات المسلحة فى الجيش، فإن بؤر العنف الاهلى قد تؤدى الى انهيار كامل فى عملية الانتقال الديمقراطي المرتقبة. خاصة وان القوى السياسية المحلية والمجتمع الدولى لا ينظر إلى هذه المخاطر بجدية كافية. كما ان صراعات الموارد على مستوى المركز فى الخرطوم حول مستحقات الجيوش المتعددة قد تؤدى الى انفلاتات أمنية خطيرة. وعلى ذات المنوال فان صراعات الأرض والموارد تظل مهدد خطير مع انتشار السلاح وغياب هيبة الدولة وتوسع رقعة النزاعات الأهلية. ان غياب الرؤية الواضحة والخبرات العسكرية لدى القوى المدنية يضعف من إمكانياتها فى فرض سلطتها على القوى العسكرية بما فيها الجيش. وهذا كرت ضغط ظل الجيش يستخدمه فى وجه القوى المدنية. وقد يكون إشعال حرب أهلية هو آلية الجيش والكيزان المقبلة والوحيدة للعودة للسلطة فى الفترة المقبلة. ولذلك فإن تحديات الوضع الامنى والعسكرى تهدد التسوية المقبلة بشكل كبير وبل تهدد السودان ككل.
فى الجزء الاخير من المقال سوف نحاول رؤية الفرص المحتملة من التسوية المرتقبة.
عناوين الاخبار بسودانيزاونلاينSudaneseOnline اليوم الموافق October, 22 2022
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة