درجت الحكومات المركزية، سيما خلال العهد الإنقاذي البائد، على إطعام الأفواه الأكثر ضجيجا سياسيا، عملاً بشعاره المرفوع غرورا منذ بدايات عهده "من يريد السلطة، عليه حمل السلاح". استجابت حركات الكفاح المسلّح لهذا التحدي، وحملت البندقية في وجه الدولة المركزية بشعارات عادلة، ومطالب مستحقة لأهل الإقليم، كلنا ساندنا تلك الثورة على المركز، ودعمنا مطالبها ومبرراتها، جرت مياه كثيرة، إلى أنّ حلّت طامة اتفاق جوبا الكارثي، في ظل حكومة انتقالية واهنة، ولجنة أمنية مريبة، استغلت هذه الحركات تلك الظروف المواتية بانتهازية مفرطة، وتقدمت بروشتة شرهة، طالبت فيها بالسطلة المطلقة ثمنا للسلام، وكان لها ما أرادت، مع تقديم تنازلات مخزية للجلّاد (اللجنة الأمنية للنظام السابق)، في حق الضحايا وأصحاب المصلحة. فجاءت الصفقة وكانت عبارة عن عطية من لا يملك لمن لا يستحق.
المتأمل لوضعية دارفور السياسية، منذ توقيع اتفاق جوبا للسلام، وتشكيل حكومة المحاصصات المعيبة في عهد د. حمدوك، يجد أنّ ثلاث حركات مسلّحة، من بين أربع، سيطرت على حوالي 99% من حصة الإقليم في السلطة في دارفور وبقية المناصب الدستورية في الدولة، وأنّ هذا الثالوث المسلّح، ينتمي إلى مكون اجتماعي واحد، وكذلك أنّ حواضنه من منطقة واحدة، لا تتعدَ الثلاث محليات أو أربع في شمال دارفور، والحركة الرابعة، "تمامة جرتق".
والذين ينظرون للمشهد السياسي الدارفوري، بصورة أوسع، يرون أنّ اتفاق جوبا، جعل دارفور قسمة "مدغمسمة" بين حواضن الدعم السريع، والحركات المسلّحة الموقعة عليه، وأنّ هنالك تفاهمات "تحت التربيزة" مفادها عدم مهاجمة المليشيات الرعوية، الحاضنة للدعم السريع، لحواضن حركات اتفاق جوبا، مقابل صمت سياسي، و"تطنيش" أمني من قبل الحركات عن ممارسات حواضن الدعم السريع.
تجلّت هذه التفاهمات خلال الأحداث الأخيرة في منطقة بليل، فقد التزمت قوات حفظ الأمن المنسوبة للحركات المسلّحة، حسب إفادات محلية موثوقة، بالحياد الجنائي.
يمكننا القول، أنّ اتفاق جوبا للسلام، عبارة عن مؤامرة إجرامية في حق إنسان دارفور، جعل الإقليم غنيمة مقسمة بين الموقعين عليه، بينما طلع الأغلبية من أهل الإقليم وأصحاب المصلحة، "بقد القُقة"، والحديث هنا عن البنود السريّة لهذا الاتفاق، لذا لابد من تصحيح هذا الأمر، الذي أصبح مفضوحا الآن، ولا ينبغي "للإطاري" تقنينه.
إن لم يلغَ اتفاق جوبا كليا، يجب أن تُجرى عليه إصلاحات جوهرية، نصاً وتطبيقا، وينبغي إقالة رئيس مفوضية السلام د. سليمان الدبيلو، الذي "لا يودي ولا يجيب" ويتقاضى مخصصات لا يستحقها.
يجب أن يعلم الجميع، في ظل الدولة المدنية المرتقبة، أنّ قيادة حركة مسلّحة، ليس مؤهلا لتولي منصب قيادي في الحكومة الاتحادية أو الإقليم، وقد أقر اتفاق جوبا هذا الأمر ضمنيا، كمكافأة رخيصة على حساب مستقبل البلاد ومصير العباد.
على أصحاب المصلحة، والأكثرية من أهالي دارفور مغادرة محطة السلبية السياسية، والتحرك المنظّم والفاعل لإسماع صوتها قبل فوات الأوان، لتصحيح الوضعية المعيبة الناجمة عن اتفاق جوبا للسلام، رغم أنّ الدولة المركزية، لا تسمع كلام القصير، ومعيار الطول والقِصر عندها بكل أسف، عدد البنادق، وطول رتل سيارات الدفع الرباعي التي تمتلكها كل حركة! بيد أننا نتطلع إلى دولة مدنية لا مجال فيها لاعتبار حمل السلاح معيارا للثقل السياسي أو الاجتماعي.
كما ينبغي مشاركة لجان المقاومة في إدارة البلاد خلال الفترة الانتقالية المرتقبة، كذلك يجب أن تكون لمكونات النازحين واللاجئين دور فعّالا في إدارة إقليم دارفور، ذلك أنّ "الجمرة بتحرّق الواطيها" ونظن بهم خيرا، وأنهم لن يخونوا أهليهم ولن يخذلوا مجتمعاتهم. يجب أن توضّح نسب مشاركة هؤلاء صراحةً في النصوص المرتقبة تعديلها.
من العبط أن تستجدي "قحت ــ المجلس المركزي" موافقة الحركات الموقعة على اتفاق جوبا إلغائها أو تعديها، يجب الاستماع بأذن صاغية إلى أصوات الأغلبية وأصحاب المصلحة من أهل الإقليم.
التفاهمات "المدغمسة" بين حركات اتفاق جوبا وقائد قوات الدعم السريع، ظاهرة في أحداث منطقة بليل مؤخرا، والصمت المريب لحاكم الإقليم، وكذلك عقد اجتماع علني لأول مرة في التاريخ لمدة ثلاثة أيام لمنتجي وتجار ومروجي مخدر "البنقو" بغابات سافنا بمحلية الفردوس بشرق دارفور، لم يحظَ هذا الحدث الخطير بغير "التطنيش" من قبل السيد مني أركو مناوي، بحكم أن دارفور أمنياً تحت قبضة ورحمة قوات الدعم السريع، وسياسيا تحت سيطرة حركات اتفاق جوبا. وبالطبع، موقع انعقاد هذا الاجتماع، يُغني عن معونة البحث عن هوية المجمعين.
ومن مظاهر هذا التفاهم، استمرار الحصار المطّبق من قبل المليشيات الرعوية المسلّحة للمزارعين في معسكراتهم على تخوم مدنية الفاشر، وعلى "مرمى حجر" من مقر الحكومة الولائية، وعدم تعليق أي قيادي من قيادات حركات اتفاق جوبا على الفيديوهات المتعددة، والدامغة لتهجير عشائر من دول الجوار لتوطينها في دارفور، وتحاشيهم ذكر إعادة الحواكير المحتلة من قبل الجنجويد منذ قبل سقوط نظام الإنقاذ المباد ولا تزال إلى يومنا هذا!
آخر تصريح لشيخ معسكر زمزم جوار الفاشر، قال فيه، أنهم خرجوا صفر اليدين من المحاصيل الزراعية هذا الموسم، بسبب الاعتداءات المتكررة من المليشيات الرعوية على مزارعهم، هذا الخبر الصادم، لا يعنِ شيئا للوالي محمد عبدالرحمن نمر، والي الفاشر، ولا يزال يتحدث عن السلام ليل نهار!
رغم هذا الخزي والصغار المبين من قيادات اتفاق جوبا الفاشلين، يجد هؤلاء القادة الجرأة لمخاطبة الناس عن السلام، والتبّجح ببنود اتفاق جوبا!
على هؤلاء القادة مراجعة أنفسهم بأسرع ما يمكن دون تردد، ولا يصح إلاّ الصحيح، طال الزمن أو قصر.
إن استجابت "قحت ــ المجلس المركزي" لابتزاز حركات جوبا الانقلابية، ورضخت لأجندتها الانتهازية، وعولت على استمرار صمت الأغلبية، تكون قد ارتكبت خطيئة مميتة لا تغتفر، لان سريان مفعول اتفاق جوبا بوضعه الحالي، سيزعزع استقرار الإقليم، ويهدد أمنه الاجتماعي، لأن الأغلبية المهمشة، من قبل هذا الاتفاق، أيضا قادرون على حمل السلاح، إن لم يجدوا من ذلك بد.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة