تنص المادة ٨/١/ج من قانون مجلس المهن الموسيقية والمسرحية والتي تحدد اختصاصات المجلس على انه: (القيام بالرقابة والتفتيش وضبط الممارسة في مجال المهن الموسيقية والمسرحية وحماية وحفظ التراث الموسيقي والمسرحي السوداني والسعي لنشره إقليمياً وعالمياً وحماية الذوق العام والوجدان السوداني من مخاطر الغزو الثقافي الأجنبي).
إن هذه المادة تكشف بؤس الوضع المعرفي لمن يضعون مثل هذه القوانين، في عالم انتهى فيه عهد حرق الساحرات، وبدأ النقاش حول جدلية القيم. فالقانون المشار إليه يستخدم كلمات فضفاضة ولا معيار لها مثل كلمة (ذوق)، و(وجدان) و (غزو ثقافي). وكل هذا مجرد هُراء الغرض منه استخظام القانون للتنكيل بأي شخص يمارس الفن. فمثلاً: الذائقة العامة: بالله عليكم اجمعوا عشرة أشخاص كعينة من محطة جاكسون واسالوهم عن ذائقتهم الموسيقية؟ هل سيتفقون؟ وما هي درجة الذائقة؟ ومن يملك تحديد تلك الدرجة. تخيل معي أن فرقة تعزف موسيقى الجاز فيتم القبض عليهم أو منعهم من عزفها لأنها تعتبر ضد الذائقة العامة أو لأنها موسيقى تمثل غزو ثقافي؟ أي بلاهة تلك.. قد يسأل البعض: ولكن ليس المقصود من هذه المادة موسيقى الجاز.. بل الأغاني الهابطة: ونسأله بدورنا: هل في هذه المادة يوجد تحديد لمعايير الذائقة؟ فمثلاً: هل قال القانون بأن غناء القونات والزنق ممنوع؟ لو قال ذلك فسيواجه بملايين من محبي أغاني الزنق والقونات. ولكن مع ذلك سيكون القانون محدداً أكثر من كلمة الذائقة العامة. فما هي الذائقة العامة، هل يتم معرفتها بالإحصاء، فمثلاً نقوم بعمل تعداد لمحبي أغاني عثمان حسين وأغاني عشة الجبل؟ وإذا كان معجبوا عثمان حسين هم الغالبية كان غناء عشة الجبل ضد الذائقة العامة؟ إذا كان المعيار بالإحصاء: فسيتم منع من يغني أغاني الجاز والبلوز. وربما لو تم إحصاء ذائقة المراهقين والشباب فستنتصر أغاني الراب على أغاني الكابلي والكاشف.. وهكذا يتم منع غناء الكابلي لأنه ضد الذائقة العامة. فما هو معيار الذائقة العامة: هل هو معيار موضوعي: أي بمراجعة كلمات الأغاني؟ إذا كانت الإجابة (نعم)، فسنسأل أنفسنا؟ اي أسلوب تأليفي راقي؟ سنعتبر انفسنا أوصياء على التأليف ونقول بأن الأغاني باللغة العربية الفصحى هي الأرقى، وهكذا لن يتم قبول اي اغاني عامية، وإن قلنا لا، بل العامية ولكن بكلمات ثقافة الطبقة الوسطى، فسنصادر على حق طبقة البروليتاريا في الاستماع لأغاني تعبر عنها، وقد نصادر على حق الشباب في سماع أغاني الراب المسودن أو غير المسودن؟ وإن قلنا أن المعيار هو عدم وجود كلمات إباحية ونابية، فلا أعتقد أن هناك غناء في السودان فيه كلمات إباحية أو نابية. وإن قلنا ليس بالضرورة أن تكون الكلمات إباحية ولكن مبتذلة، فالسؤال: من يملك حق تحديد درجة الابتذال: لو جئنا بعبد الله الطيب فسيرى كل كلمات كلمات الأغاني مبتذلة، ولو جئنا بكمساري لقال بأن كلمات أغنية الجندول للكابلي غير مفهومة ومجرد حماقات. فمن سيحدد ما هو مبتذل وغير مبتذل؟ هذه المادة القانونية تتحدث عن غزو ثقافي موسيقي؟ يا للعنة؟ غزو ثقافي موسيقي؟؟!! هل تتخيلون ذلك. لو وافقنا على ذلك فسنقول: الموسيقى والمسرح أساساً هما غزو ثقافي. فالسودان قبل ستين عاماً ام تكن فيه موسيقى، ولم يعرف الناس الآلات الموسيقية إلا مؤخراً ودخلت آلة العود وهي آلة تعتبر بدائية بعد أن كان الناس يغنون بأفواههم فقط مع بعض التصفيق باليد.. (ماهووم ماهووم ماهووم).. هذا كان الغناء في السودان.. الذي غزاه الأجانب فظهرت الآلات الموسيقية. واما المسرح، فهو أساساً نشأ في اليونان القديمة، ولم يعرفه السودانيون إلا حديثاً جداً.. فهو في حد ذاته غزو ثقافي.. ووفقاً لهذه المادة القانونية، يجب منع الموسيقى والمسرح تماماً.. ولكن حتى لا نكون مغالين، فإننا نتساءل عن معنى الغزو الثقافي؟ وخاصة في المسرح؟ فهل الغزو هو أن نأتي بمسرحيات شكسبير أو لويجي بيراندلو أو أرتور آدموف أو يونيسكو أو أونيل أو صمويل بيكيت أو..الخ. هل هذا في حد ذاته يعتبر غزواً ثقافياً؟ لا.. طيب.. هل تقصد بالغزو الثقافي أن يكون موضوع المسرحيات غير مقبول، مثل مسرحيات إباحية بها مشاهد للواط والمثلية والدعارة؟ هذا ليس غزواً ثقافياً فالعديد من دول العالم بما فيها أمريكا تمنع المشاهد الجنسية على المسرح. وهذا يدخل في باب الآداب العامة وليس (الغزو) الثقافي. فما المقصود من كلمة ضخمة ككلمة (غزو) ثقافي.. إنها كلمة للتضخيم والتهويل. وكان يمكن الاكتفاء بجملة (وحماية الآداب العامة). ولكن بالتأكيد ومن خلال هذه الجمل الفضفاضة سيستطيع مطرب قديم لم يعد غناؤه مسموعاً لجيل الشباب أن يمنع مطرباً شبابياً من الغناء بحجة حماية الذوق العام والغزو الثقافي. عدة نصائح للمطربين العجائز: النصيحة الأولى:أنصحكم بأن تقتنعوا بأن زمانكم قد ولى، وخسرتم السوق وكسبه جيل الشباب، فهذه سنة الحياة. وأنتم في زمانكم أيضاً استطعتم إزاحة من قبلكم عندما كنتم شباباً. النصيحة الثانية: الغناء والموسيقى والمسرح هم من الفنون، والفن لا يتجمد في زمام ومكان واحد.. بل يتطور، وعليكم أن تفهموا بأن العصر قد تغير، فلا يمكن لعروسين أن يأتوا بمطرب يغني بال(رِق) د دوالشيالين بالصفقات.. هذا زمان قد ولى. وظهرت الموسيقى وتطورت. بل أنا أرى أن الموسيقى السودانية بطيئة جداً في تطورها.. وأعتقد أن نقطة انطلاقها في التطور ستبدأ بموسيقى الزنق التي دمجت الأجنبي بالمحلي، واصبح الناس يرغبون في هذا الناتج التطوري. النصيحة الثالثة: بما أن الفنون لا تتطور إلا عبر الاستفادة من التجارب الموسيقية والمسرحية من حول العالم، فإنه لا أحد يملك وصاية على الذائقة الجماهيرية، وإلا فإننا سنجمد ذائقة الشعوب بالقوة الجبرية. فلننظر مثلاً إلى الأغاني السودانية التي استطاع بعض الفنانين المصريين نقلها للعالمية بقليل من الإضافات الموسيقية. في حين بقى الفنان السوداني أسير التاريخ بسبب مقاومته لملاحقة التطور حول العالم. النصيحة الثالثة لجيل العجائز: لا تتشبثوا بالكراسي كالحكام ورؤساء الأحزاب..
عناوين الاخبار بسودانيزاونلاينSudaneseOnline اليوم الموافق August, 20 202
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة