مقاربة د. عبد الله الفكي البشير بين آراء الأستاذ محمود محمد طه والبروفيسور أمارتيا سن تجاه التنمية تلهم المتخصصين في التنمية وتدفعهم لفتح باب المقارنات دون الاعتراف بالفضل (4-7) بدر موسى
"والتبشير بالإسلام أمر يتطلب أن يكون المبشِّر، من سعة العلم بدقائق الإسلام، وبدقائق الأديان، والأفكار، والفلسفات المعاصرة، بحيث يستطيع أن يجري مقارنة تبرز امتياز الإسلام على كل فلسفة اجتماعية معاصرة، وعلى كل دين، بصورة تقنع العقول الذكيَّة". (محمود محمد طه، الثورة الثقافية، 1972، ص 17).
قُصي يستغرب! وعبد الله يستغرب! وشتان!!!
كتب قصي في مساهمته، قائلاً: "فالبنسبة لي، أثناء الدراسات العليا، كان طبيعيا أن أمرّ على كتاب سن، فقرأته كله في 2016، واستندت عليه كأحد المراجع في دراساتي، لكني كذلك، في نفس العام، قرأت كتاب نيريري "الحرية والتنمية"، وهو بخلاف كتاب سن غير مشهور، بل لم ينصحني به أحد في الأكاديميا إنما سعيت له بنفسي وقرأته في تنزانيا. لذلك، ولعدة اسباب أخرى، فإن هذين الكتابين كانا دوما في نظري يتحدثان عن نفس مسار التنمية العام (نظريا) لكن بلغتين مختلفتين ووفق موقفين مختلفين عموما في الاقتصاد السياسي. مؤخرا، ولعدة أسباب أيضا، بدت تتراءى لي مسببات أكثر وراء اشتهار أحد الكتابين وقلة اشتهار الآخر (رغم أن الآخر هو الأقدم بحوالي 30 سنة، ورغم أنه صدر عن دار جامعة أكسفورد وهي نفس الجامعة التي درّس فيها سن اقتصاديات التنمية في نفس الفترة التي صدرت فيها كتب نيريري المعنية)؛ ثم من الأشياء الغريبة (وليست غريبة تماما) أن كتاب أمارتيا لا يشير لكتابات نيريري أبدا، ...". هل يعقل، بعد صدور كتاب عبد الله، أن يكتب أي مطلع عليه سواء كان جمهورياً، أو قل مطلع دارس للفكرة الجمهورية، أو متخصص في التنمية، مساهمة مثل هذه، يركز فيها على التقارب بين رؤيتي التنمية كحرية عند كل من المفكر والمعلم التنزاني الراحل جوليوس نيريري، والبروفسير أمارتيا سن، ويستغرب فيها عدم إشارة أمارتيا لكتابات نيريري، السابقة لكتابات أمارتيا بثلاثة عقود، ولا يستغرب عدم الإشارة والاهتمام برؤية الأستاذ محمود للتنمية، الشاملة والأدق، وصلتها بالحرية، وهي السابقة لرؤية نيريري بعقدين من الزمان؟ ولا يشير، على الأقل إلى كتاب عبد الله الذي أستغرب قبله لعدم إشارة أمارتيا سن للأستاذ محمود، ويفصل بينهما ليس، ثلاثة عقود، وإنما نحو خمسة عقود، كما فصل عبد الله في كتابه؟!
قصي لا يزال في الضفة الأخرى يحاجج بالنحت ويجادل بمخرجات العلم التجريبي المادي
في الوقت الذي وصل فيه بعض القراء إلى مغزى كتاب عبد الله وعبروا معه إلى الضفة التي نحن فيها، كما سنورد لاحقاً أحد النماذج، وهو وللمفارقة بروفيسور من تنزانيا، بلد نيريري، فإن قصي لا يزال يحاجج بالنحت، ويجادل بمخرجات العلم التجريبي المادي. فلقد أوضح عبد الله في كتابه أن رؤية الأستاذ محمود تجاه التنمية تنطلق من دعوته لإرجاع الحياة إلى الله، وأن منشأ العلوم في حاجة ماسة وضرورية للمزج بين العلم التجريبي المادي ومع العلم التجريبي الروحي، نسبة لوحدة الوجود، وأن تعريف التعليم هو تمليك الحي للقدرة، أي القدرة على تكيَّف الإنسان مع البيئة، وأن عناصر البيئة هي المعلم المباشر، بينما المعلم الأصلي هو الله، وأن قمة الحرية هي العبودية لله، وأن سبب أزمة الأخلاق في العالم يتصل بالتخلف بين تقدم العلم التجريبي، وتخلف الأخلاق البشرية، وقد فصل عبدالله في كتابه كل ذلك تفصيلاً دقيقاً ومسدداً، في مواقع مختلفة من الكتاب. فقد كتب عبد الله، قائلاً: "أرجع طه أزمة الأخلاق، التي أدت للاضطرابات التي يشهدها عالم اليوم، إلى سبب أساسي، وهو مدى التخلف بين تقدم العلم التجريبي، وتخلف الأخلاق البشرية. ويرى بإن العلم التجريبي الحديث رد مظاهر المادة المختلفة، التي تزخر بها العوالم جميعها، إلى أصل واحد، وأن البيئة التي يعيش فيها الإنسان هي بيئة روحية ذات مظهر مادي. هذا الاكتشاف الجديد، كما يرى طه، يواجه الإنسان المعاصر بتحد حاسم، فالعلم المادي التجريبي، والعلم الروحي التجريبي، التوحيدي، اتحدا اليوم في الدلالة على وحدة الوجود. ولهذا فإن عليه أن يوائم بين حياته وبين بيئته هذه القديمة الجديدة، وبهذه المواءمة والتناسق يكون الرجوع إلى الله بعقولنا، بل وبكل كياننا، حتى نحقق العبودية لله. والعبودية لله، عند طه، هي غاية الحرية، وكلما زاد العبد في التخضع لله، كلما زادت حريته. فبالعلم التجريبي لا نستطيع الرجوع إلى الله، وإنما أسرع الطرق للرجوع لله يكون عن طريق الفكر، النابت في البيئة الروحية. والفكر، كما يرى طه، أسرع من الضوء، وبالطبع أسرع من الآلة التي ينجزها العلم التجريبي. ولهذا فإن قواعد الأخلاق البشرية إذا لم ترتفع إلى هذا المستوى فترد جميعها إلى أصل واحد، الأصل الروحي، كما ردت ظواهر الكون المادي إلى أصل واحد، فإن التـواؤم بين البيئـة، وبيـن الحيـاة البشرية، سيظـل ناقصاً، وسيبـقى الاضطراب الذي يعيشه عالم اليوم مهدداً الحياة الإنسانية على هـذا الكوكب بالعجـز، والقصـور، في أول الأمر، ثم بالفناء والدثور، في آخر الأمر". (عبد الله الفكي البشير، 2022، ص 257- 258). كذلك تحدث عبد الله بتوسع عن التحرير من الخوف عند الأستاذ محمود، الأمر الذي لا وجود له عند أمارتيا سن أو نيريري، والذي غاب عن الكثير من المتخصصين في التنمية، بينما التقطه البروفيسور كورنيل وست، حيث أورد عبد الله، ما كتبه وست. فقد كتب وست، قائلاً: "ينظر طه إلى الإسلام باعتباره أسلوب حياة شامل ينمي الحرية -هزيمة الخوف- من أجل حياة كريمة تسودها المحبة". كما فصل عبد الله في كتابه رؤية الأستاذ محمود تجاه التحرر من الخوف باعتباره الطريق لاستئصال العبودية. والحرية عند طه، أمرها أوسع بكثير مما هو عند آمارتيا سن أو نيريري وغيرهما. فقد كتب عبدالله، قائلاً: "إن الشرط المركزي لنجاح عملية التنمية، عند طه، هو الحرية. كون الحرية، عنده، هي روح الحياة، فحياة بلا حرية، كما يقول، إنما هي جسد بلا روح... والحرية الفردية، عنده، تتطلب الحرية من الخوف الموروث، وهو ما لم يرد عند سن، والمترسب في أغوار النفس بسبب البيئة الطبيعية. وتقوم على الحرية من الخوف، كما يرى طه، حريتان اثنتان هما: الحرية من الفقر، والحرية من الجهل. والخوف من حيث، هـو، كما يرى طه، هو الأب الشرعي لكل آفات الأخلاق ومعايب السلوك. ولا سبيل للتحرير من الخوف، كما يقول، إلا بالعلم. فالخوف، عنده، جهل والجهل لا يحارب إلا بالعلم. العلم بحقيقة البيئة الطبيعية التي عاش، ويعيش فيها، والتي عن الجهل بها، نشأ الخوف في صدور الرجال والنساء، أول الأمر. ولا يكون التحرير من الخوف إلا بالعلم الذي يقود إلى اكتمال التـواؤم بين البيئـة الطبيعية، وبيـن الحيـاة البشرية". وأضاف عبدالله، قائلاً: "إن تحرير الفرد من جميع صور الخوف عبر العلم بدقائق حقيقة البيئة الطبيعية، يحقق للفرد الاتساق والتواؤم والتكيف مع البيئة، فينتفي الجهل. كما يستطيع أن يعيش في سلام من العداوات، والمجاعات والكوارث البيئية. ولذلك وجب، كما يرى طه، الاهتمام بإعطاء الفرد صورة كاملة، وصحيحة، عن علاقته بالمجتمع والكون. إن العلاقة بين الإنسان والكون، كما يقول طه، ظلت مادة التعليم والتعلم، من لدن فجر الحياة البشرية وحتى اليوم. ولا ينفصل التعليم وفائدته ووظيفته عن البيئة وعناصرها. فالتعليم هو تمليك الحي للقدرة، وتَكمُن فائدته، كما يرى، في مقدرة المتعلم أن يوائم بين نفسه وبين بيئته، كما أن وظيفة التعليم هي أن يأخذ المتعلم صورة كاملة وصحيحة عن البيئة التي يعيش فيها. ولكن من هو المعلم عند طه؟ هو المعلم الواحد، الله، الله هو المعلم الأصلي، بينما المعلـم المباشر هو العناصر المتعددة في البيئة. والمادة التي يعلمها المعلم الواحد، الله، عند طه، هـي المقدرة على التواؤم بين الحي وبيئته. ويرى طه بأن كل عناصر البيئة حية، ولكنها حياة فوق إدراك العقول، ولا تصبح حيـاة في إدراك العقول حتى تخرج، من المادة غـير العضوية، المادة العضوية، وهـي ما تسمي، اصطلاحـاً، بالحياة. ولهذا فهو يقول: "الحياة أصدق من العلم". وما يجب ألا يغب على المرء أن مصدر رؤية الأستاذ محمود هو القرآن الكريم في مستوى آيات الأصول (الآيات المكية). لقد ظل قصي في الضفة الأخرى، مع النحت، بينما وصل الكثير من القراء إلى الضفة التي فيها عبد الله، حيث دعوة الأستاذ محمود بأن مصدر المعرفة هو الله، وأن التعليم هو تمليك الإنسان للقدرة على التكيف مع بيئته والسعي لاكتشافها والإحاطة بها، وقد التقط ذلك عدد من المتخصصين الأذكياء، كما هو النموذج أدناه وهو بروفيسور من تنزانيا، بلد نيريري. سأواصل التفصيل في الحلقات التالية…
عناوين الاخبار بسودانيزاونلاينSudaneseOnline اليوم الموافق 03/19/2022
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة