الكتابة عن الأشخاص مسألة لم أعتادها .. فكل مُساهماتنا ذات طابع عام في السياسة وقضايا التغيير المُرتبطة بها لبلادنا .. ولكن عندما يكون شخصاً في قامة "عم" خليل الياس فإنك تجد نفسك مدفوعاً للكتابة عنه ..
"في ذكراك الأولي يا عم خليل إنني الآن أكتب.. لعلي من المحظوظين جداً لوجود "زول" زي "عم خليل الياس" في حياتي .. فقد كان أقرب صديق لوالدي عليه الرحمة ويكادان لايفترقان .. وقد عُرف لكل أفراد عائلتنا كبيرها وصغيرها بهذه الصفة والدرجة الكبيرة من المحبة والإحترام التي ينالها منهم جميعاً بلا إستثناء.. تعودت علي وجوده في حياتي وبرباط الأبوة مُنذ طفولتي الباكرة.. نفرح وإخوتي عند زياراته المتعددة ونفتقد غيابه .. يأثرنا مرحه وضحكاته وسخريته وطريقته في الحكايات و التعليق و التعليم والتشجيع والتحفيذ .. منذ طفولتي أعلم أنه كان رفيق ابي في "المُعتقل" في كوبر إتبان مرحلة ١٩ يوليو وإنقلاب "هاشم العطا" حيث تمت ولادتي وخرجت للدنيا وهما هنالك .. لم يكمل أبي عاماً بالمُعتقل بينما "قبع" فيه عم خليل لمدة "٧" أعوام متواصلة في فترة حُكم مايو توزعت مابين كوبر والأبيض وشالا كغيره من رفقائه "الشيوعيين" ذوي الخدمة الطويلة في الزنازين و المعتقلات .. وبمجرد خروجه من المعتقل كانت زيارته لنا لاتنقطع .. نسعد جداً بمجئيه إلينا في "بيتنا" أو بيت العائلة الكبيرة.. ظل الأمر هكذا حتي كبرنا وتخرجنا من الجامعات وتزوجنا .. لم تتغير طبيعة علاقته بوالدي كاقرب الأصدقاء .. تزامل ووالدي في "إتحاد الشباب" الذي كان يضم في الاغلب الشيوعيين والديمُقراطين .. كان والدي من "الديمُقراطيين" و عم خليل مُنتمياً للحزب "الشيوعي السوداني" .. وكان عم خليل سكرتيراً عاماً لعدة دورات لإتحاد الشباب السُوداني وإرتبط إسمه به داخل الحزب ولعديد من الديمُقراطيين .. وتعداه لتمثيل الحزب في إتحاد الشباب الديمُقراطي العالمي نائباً للرئيس في فترة وجود النظام الإشتراكي وسطوته خاصة في أوربا الشرقية ودولها رومانيا وبلغاريا وبولندا ويوغسلافيا وتشيكوسلفاكيا والمجر والمانيا الشرقية إضافة للإتحاد السوفيتي .. عم خليل الياس مُناضل حقيقي أفني حياته كلها في خدمة قضايا الحرية والديمُقراطية وفي خدمة الحزب الشيوعي السوداني .. كان من أكثر المُناصرين لحقوق الشباب والمرأة والعمال والشرائح الضعيفة والكادحين .. كان متواضعاً لأقصي الحدود .. إلتحق عم خليل بالحزب الشيوعي منذ العام ١٩٥٧ وهو في مدينة شندي وقتها متأثراً بقريبه مصطفي محمد صالح .. كان مُقرباً من الراحل عبدالخالق محجوب الذي كان يحبه ويعامله معاملة خاصة ... عم خليل وبرغم الإنقسام الذي تم في الحزب وبقائه مع مجموعة عبدالخالق إلا أنه من الشيوعيين القلائل الذين لم يوصدوا ابواب العلاقة مع عديد من أصدقائهم ورفقائهم من الإتجاه الآخر وتواصلت علاقته بفاروق ابوعيسي وكبج عبدالله عبيد وغيرهم فهو لايؤمن بالخصومة والمقاطعة خاصة إذا ما أرتبطت بخلاف فكري أو رأي سياسي.. وعندما خرج الخاتم من الحزب ظلت علاقة عم خليل موجودة ومتصلة معه ومع أسرة الخاتم واشقائه .. وكان يري في الخاتم نبوغ وعقلية مُنفتحة كانت يمكن أن تفيد الحزب إذا ماتم إحتواء الخلاف الفكري داخل الحزب أو واصل الخاتم داخله ولم يتقدم بأستقالته الشهيرة .. كان لعم خليل الياس راي متزن تجاه شباب الحزب "المُتمردين" ولعلي كنت أحدهم من خلال طرحنا ونقاشاتنا المُستمرة التي كانت تجمعنا وكان جزءاً دائماً منها أصدقائه المُقربين عم عبدالحميد علي والعم حسن شمت .. فقد كان عم خليل وبحكم عمله في إتحاد الشباب لسنوات طويلة داخلياً وخارجياً مؤيداً لطموح وصعود الشباب وتقبُل حماسهم ومسألة صراع الأفكار والأجيال خاصة مابعد مرحلة إنهيار النظام الإشتراكي وما تبعه من أحداث داخلية وخارجية داخل الحزب وخارجه .. كان كثيراً مايُقدم "النصح" للمحاربين القدامي بترك التعنت و إحتواء الشباب وتوسيع مواعين الديمُقراطية وأنا أشهد علي ذلك في عديد من الجلسات "غير التنظيمية" ولكنها كانت مُتاحة للتعبير عن الرأي المخالف لخط الحزب السياسي والفكري .. ظللت لفترة طويلة مُلازماً للعم خليل الياس ، حتي أنه كان مدخلي للتعرف علي عديد من شخصيات الحزب القيادية ومن جيل الرواد .. لم تكن صلتنا التنظيمية وقتها أو حتي ظرف البلد والقبضة الأمنية كانت ستسمح لي بمعرفتهم عن قرب أو ملاقاتهم والإستماع إليهم أو التحدث معهم .. ومنهم من جمعتني معهم بعدها صلات تنظيمية ولكن أساس المعرفة وحتي الصداقة كان عم خليل الياس أساسها .. حسن شمت .. عبدالحميد علي .. فاروق زكريا .. طه سيد احمد .. محجوب شريف .. التجاني الطيب .. يوسف حسين .. عبدالجليل .. عبدالقادر الرفاعي .. محجوب خالد .. الشيخ عووضة .. آدم مهدي .. علي الكنين .. وكثير من بيوت أصدقائه وصديقاته الشيوعيين .. فقد كان وفياً بشكل يدعوا للتعجب لزملائه من داخل الحزب سواء الأحياء منهم أو الأموات ... قابلت الكثيرين جدا معه وبصحبته في زيارات الأعياد أو المناسبات أو عندما يعود من السفر أو تفقد مريض منهم وأستمر هذا حتي بعد مغادرتي الحزب لسنوات عديدة وحتي خروجي من السودان مُهاجراً أيام "الكيزان" .. كان سخياً جداً وكريماً ومنفقاً من ماله ووقته .. أعلم بحكم العلاقة القريبة جداً ومساحة الثقة العظيمة بيننا مدي إنسانيته البعيدة في تبني الكثير من حالات لمحتاجات ومحتاجين .. ومعاملته الإنسانية للبسطاء والمرضي والأيتام .. يحكي لك عن تاريخ الحزب وسنوات النضال فيُخيل لك أنك تعايشها .. له العديد من الأشياء والمواقف التي وثق بعضها في كتاب "كوبرهاجن" وفترة الأعتقال الطويلة بأسلوب شيق وجاذب .. عم خليل بخلاف السياسة وتجربتي الحزب وحركة إتحاد الشباب إلا أنه ذو صوت غنائي بديع جداً ويحكي أنه كان ينافس عثمان الشفيع في شندي وأنه لولا إحترافه للسياسة لكان مطرباً مُجيداً شهيراً .. كما أنه اديب وشاعر .. له العدئد من القصائد الشعرية التي تصلح لتكون ديواناً سواء من شعر العامية أو الفصحي .. وله قصيدة وحيدة وجدت حظها في التغني بصوت صديقه "صلاح بن البادية" وهي "يا مسافرين" .. حاولت تعريف بعض الناس ممن لايعرفك يا "عم خليل" ببعض مآثرك الكثيرة .. وتجدني مُمتنا جداً لك لكل ماقدمته لي في تكوين شخصيتي وفي التعلم .. نختلف مع الحزب ولكننا نحترم تاريخه ونقدر ونُعظم تضحيات الكثيرين داخله ممن رحلوا ومن لايزالوا علي قيد الحياة ممن عرفهم الناس أو جهلوهم .. تعلم عظيم حُبي وإفتقادي لك فقد حاولت التسامح مع الموت الذي أخذك عنا ولعلي وطوال حياتي لم أجد شخصاً متصالحاً مع الموت مثلك .. لم ارك تهتز أو تجذع لرحيل اقرب الناس إليك من أهلك وأصدقائك الكُثر ممن رحلوا قبلك .. رحلت قدراً في ذات شهر أُكتوبر شهر "الثورة" والتي كنت دائماً عندما يأتي ذكراها في ٢١ وألتقيك أو أهاتفك مهنئياً بذكراها واقول لك عندها "بإسمك الأخضر يا أُكتوبر الأرض تغني" فتكمل أنت وتقول والسماء!.. أشهد أنك إنسان يصعب ويندر تكراره وأنك من أنبياء الإنسانية غير المُرسلين .. وحق للناس ممن يجهلونك معرفتك وقراءة سيرتك .. رحمك الله الكريم الرحيم وسلاماً لك في الخالدين وطبت حياً وميتاً يا "عم" خليل الياس نضال عبدالوهاب 12 أكتوبر 2022
عناوين الاخبار بسودانيزاونلاينSudaneseOnline اليوم الموافق October, 10 2022
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة