في العام الماضي توقفنا بقريتي عند منحنى النيل..كنا نحو خمسة أصدقاء من مناطق مختلفة من السودان..قضينا ليلة تحت القمر..في الصباح أخذت ضيوفي إلى نخلة جدتي ..صعد مجوك إلى قلب النخلة ..مجوك دفعتي في المدرسة هو آخر ما تبقي من رموز السودان القديم..جاء من جوبا رفقة أسرة شمالية..بين الحجر والرمل اتخذ الوطن الذي يحب رغم أنف تقرير المصير..تزوج من قرية مجاورة وأصبح مؤذن الجامع العتيق. لم يكن مجوك سياسياً..حدثني بأسى أن ابنته نجحت وأحرزت درجة عالية في الشهادة الثانوية ..لكنها لن تنعم بتعليم مجاني..اعتبروها أجنبية..لم يكن غاضباً والبلايا تقع على رأسه..إنه من طينة جدتي..شعرت بالخجل، أدرت وجهي الى الناحية الأخرى..شغل الرجل نفسه بمهمة جديدة بين أشواك النخيل، وتركني ألوم الساسة الذين فرطوا في وطن جميل. كانت شجرة جدتي كريمة ترمي الرطب الناضج بغزارة كأنها تقدر ضيوفها، هكذا كانت جدتي تفعل مع ضيوفها..أسعد لحظات جدتي حينما تصنع الطعام إلى أقارب، أو غرباء..ذاك يمكن أن يكون بعد منتصف الليل أو في الفجر..ذاك الكرم يتصل حينما يهم الضيوف بالسفر..من ذات شجرة البلح تصنع لهم عجينة غريبة تخلط فيها السمن بالتمر والقمح.. عجينة جدتي تصبح زاداً لكل المسافرين على لوري أحمد تمساح.. ما تبقى يرمى به لأولئك الأطفال البؤساء الذين يلاحقون اللوري في جوف الصحراء وهم يصرخون (كرامة ..كرامة.. كرامة). كل أصدقائي كانوا سعيدين بحصاد ذاك الصباح.. لكن جدتي احتلت ذاكرتي بالكامل ..كانت ممتلئة إيماناً تصلي والنَّاس نيام..فيها كثير من التصوف، تعتقد أن السيد الإدريسي يمكن أن يسعفها في لحظات الضعف.. ذات النداء يشمل (ضمين الدار) الذي لم أعرف له أصلاً ولا فصلاً..كانت جدتي تشبه تلك النخلة الخضراء، فارعة القوام، شديدة الصبر على الشدائد..فيها قدر من التسامح أقرب إلى الضعف ..تتحاشى الشر ..إنها ذات النخلة ترمى بالحجر، فترمي الثمر. ابتسمت أخيراً حين حمل كل ضيف سبيطة من الرطب ..لا شك أن جدتي هنالك أيضاً ابتسمت..ماتت جدتي قبل عشرين سنة ..لكن شجرتها ما زالت تعطي كل عام..أغلب الظن أن جدتي كانت فيلسوفة رغم أنها لا تكتب ولا تقرأ..حينما درسنا البروفيسور محمد هاشم عوض نظرية العرض والطلب تذكرت أن جدتي كانت تمارس تلك النظرية في الواقع..أشياء كثيرة كانت تفعلها وجدتها لاحقاً نظريات تدرس في الجامعات. قررت أن أتعلَّم من جدتي التي زرعت تلك النخلة..اليوم غرست خمس نخلات من النوع الجيد ..ربما يأتي يوم فيأكل من ثمرها جائع ..لو أن كل من قرائي فعل ما فعلته جدتي قبل خمسين عاماً ستصبح بلدنا خضراء.. بعض الماء المهدر يكفي لزراعة شجرة ليمون أو مانجو في قلب شارع الحكومة..أرجوكم افعلوا..اجعلوها صدقة لأنفسكم ومن تحبون. حينما أنام هذه الليلة ستأتيني جدتي وتربت على رأسي ..سأمسك طرف ثوبها، وأخطو من ورائها، وأحكي لها عن نخلاتي الخمس، وعن آسيا بت مجوك.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة