كتب وهو في السنة الثانية بآداب جامعة الخرطوم في سبعينات القرن الماضي:
إني أرنو لصيدٍ لا يقاوِم حاك لي حبل نجاتي وأنا في اليمِ ممكونٌ ولا أعرف ذاتي
*
أعلاه جزء من تجاربه الشِعرية التي لا يحب الحديث عنها ، لأنها في نظره تجربة فطيرة و منخفضة الشاعرية. ألحّيتُ عليه أن يضمها لروزنامة أشعاره ، وإن تطلّب ذلك تعديلها . لم يزل عند رأيه حتى الآن . سابقاً قدّمها ذات أمسية لسكرتارية الصحيفة الطالبية الحائطية الثقافية " مواقف " .حضر إلى الطابق الثاني وطرق الغرفة رقم ( 18) من مبنى داخلية طلاب جامعة الخرطوم ، التي كان يفصلها عن مبنى وسط جامعة الخرطوم في السبعينات طريق هو " شارع الجامعة "المشهور .وكانت هي غرفة اجتماعات سكرتارية الصحيفة.
فُتَح باب الغرفة ، وترك القصيدة التي ذكرنا مطلعها عند أول قادم لفتح الباب، ولم ينبس ببنت شفة . أودع طالب السنة الثانية آداب: " بشرى الفاضل " قصيدته التي اقتبسنا بعض أبياتها أعلاه ، ثم انسحب وابتلعته الظُلمة.
*
جاءت سكرتارية الصحيفة الحائطية الثقافية" مواقف " . أصيبوا جميعاً بالدهشة : كيف يكون هناك طالباً بهذا الاخضرار الكثيف ولا يتعرفون عليه؟!. كيف لا يتعرفون على هذا المُبدع الذي سيصبح جسداً أصيلاً ضمن مُحرري صحيفة " مواقف " الحائطية "بقهوة النشاط " التي أزالها " الجهل النشط "من الوجود في مُقبل السنوات ؟!.
* في الصباح كانت سكرتارية " الصحيفة الحائطية الثقافية " تُلاحق الطالب" بشرى الفاضل " .ونشأت صداقة بينهم دامت إلى تاريخ اليوم . كنتُ حينها أقوم بالأعمال الفنية الجمالية لصحيفة الحائط الثقافية " مواقف " ، دون مشاركات أخرى . بيننا وبين الآداب حينها بون شاسع. كان الراحل الطالب " كمال النَّقر " يقوم بالخط العربي للصحيفة الحائطية ، ويُصحح بموسوعيته الموضوعات ، ويشرف على طقس الاخراج . ويُدقق أيضاً على الوقائع التاريخية . و كان تم فصله سياسياً من كلية القانون منذ أيام الحكم العسكري الأول . تحول مديراً لأحد المدارس الشعبية ، وامتحن الشهادة السودانية مرة أخرى عام 1971 ، وعاد للجامعة ملتحقاً بآداب جامعة الخرطوم! .
* كان من ضمن مُحرري الصحيفة تلك " الدكتور حالياً " مبارك بشير سليمان " الشاعر الغنائي المعروف والمكنوز ثقافة ، و كذلك البروفيسور " صلاح حسن الجرّق " المختص الآن في الفن الأفريقي والثقافة بجامعة " كورنيل " بنيو يورك. والإنسان المُبدع في كل ضروب الفن " صلاح حسن أحمد ". والأخير هو مؤلف المسلسل الإذاعي في السبعينات " الحياة مهنتي " وكاتب السيناريو ، وكان حينها مساعد المخرج " صلاح الدين الفاضل " في تلك التجربة ،وكان " صلاح حسن أحمد" وقتها طالباً في السنة الثالثة في آداب جامعة الخرطوم !. ولاحقاً أصبح بعد تخرجه من الجامعة مُحرراً في المجلة الإنكليزية " سوداناو " تحت إشراف الأستاذ " بونا ملوال " وزير الإعلام في السبعينات ، ثم رحل بعد ذلك مُحرراً في " الـ بي بي سي " العربية في لندن ، ثم انتقل مُترجماً في صحيفة "الشرق الأوسط" التي تصدر في لندن .
*
لم تكُن المجلة الحائطية ، إلا وتتبع منهاج صحافة الحائط الثقافية التي كان من محرريها " بروفيسور "علي المك " أو الشاعر "صلاح أحمد إبراهيم " في أواخر خمسينات القرن الماضي، عندما كانا طلاباً في جامعة الخرطوم . لم تكُن الصحيفة الحائطية الثقافية " مواقف " إلا من تُراثنا الثقافي ، رغم كثير من الأمواه التي جرت تحت جسور التاريخ. تُراث كبير منذ منتدى جماعة الهاشماب و جماعة أبو روف، قبل تكوين مؤتمر الخريجين . لم تكُن الثقافة منذ الثلاثينات طارئة على حياة المثقفين . رغم ارتدادنا إلى الوراء !.
(2)
" بشرى الفاضل " خرج عن سماوات خيالنا المعهود بغرابة ما يُكتبه . في الشِعر و في القصّ وفي الرواية .هو ذهنٌ متّقد ، لا سقف لأحلامه أو رؤاه أو أقاصيصه. سماواته أرحب مما كُنا نتخيل . بدأت بذرة إبداعه منذ السنة الأولى في متوسطة " المدينة عرب " .وازدهرت في ثانوية " حنتوب "، حيث نما إبداعه في حُضن " طلائع الهُدهُد " التي أسسها أستاذ الفنون بحنتوب ولاحقاً الدكتور " عبد الله بشير بولا ".
(3)
كثير من أصحاب الرؤيا ، والابداع الرصين يقفون في مفترق طُرق عصيّة على السير في أرضية حجارتها . دائماً تشغلهم الكتابة للجمهور الخاص ، وللجمهور العام. استخدم الدكتور " بُشرى الفاضل " المُفردات عاديّة التداول ، ونسج منها قصصه في منعطف العُمر منذ سبعينات القرن الماضي . زاوج هو بين اللغة المتوسطة الدلالة ، ليصنع منها مردة خيال عِظام ، لا يوقف صعودهم حواجب أو متاريس سماوية . لم تكُن لغته مُقعّرة ، بل مُنسابة وادعة .وتنأى أساليبه عن البلاغة المُركبة رغم مقدرته ، فيسهُل للعامّة قراءة ما يكتُب، بل وتمسّ وجدانهم ،وسط دهشة منْ يقرأ أو منْ تقرأ .فتصويره للأحداث يذوب في خيال فنتازيا مُترفة ، ولكن لقصصه تذكرة عودة إلى الواقع لمَنْ يقرأ العِبر. يُلبِس الكائنات غير البشرية روحاً وحياة كأنها بشر ، ويتناول الواقع بخفة ومهارة وجاذبية . يضع الأشياء في مواضع المفاجآت المُدهشة . يأخذ من تُراث البيئة و يُلبسها جسوماً أخرى.
(4)
وُلد دكتور " بشرى الفاضل " في " أرقي " قرب " الدبّة "في شمال السودان، ونشأ في قرية مغروزة مع أفقر قُرى الجزيرة . عندما أرسلته جامعة الخرطوم للاتحاد السوفيتي السابق لينجز الماجستير والدكتوراه في علم اللغويات ، عاد خلال إحدى العُطلات إلى قريته في الجزيرة . قرية هي بلا كهرباء مثل سائر قرى الأرياف في زمان السبعينات. مواقد الكيروسين تنتشر في البيوت والنادي الليلي الوحيد . أحضر معه هدية للقرية من الاتحاد السوفيتي ( جهاز تلفزيون و صندوق بطارية مرفقة معه) وأهداهما لنادي القرية ، حيث يتجمع النسوة والرجال ، الشيب والشباب لمشاهدة الساحر المُضيء !.
*
كان الأمس عنده مرتفع القامة بإصراره أن يطوِّر ذاك الواقع قدر ما يستطيع. كانت الحياة التي يحبها " بشرى الفاضل " هو أن يكون بين فقراء القرية مشاركاً أفراحهم وأتراحهم رغم فراق المهاجر . لم يزل يحِنّ إلى تلك الأيام رغم تقلبات المهاجر وقسوة الحياة، فحمل هموم أهل وطنه ، يلاحظها القارئ المُدقق في دواخل نصوصه الإبداعية . تجده كما يقول دائماً، يحاول هو الخروج من تحت الأرض إلى الحياة، إلى حيث يستنشق هواء الطبقة التي إليها ينتمي. وتلك مصائر كثير من أصحاب المهاجر . يبدؤون كل يوم تجربة ولادة عسيرة .
*
بعد عملية تضييق البؤبؤيين في عينيه ، في الاتحاد السوفيتي السابق ، تمكّن من رؤية أفلام السينما .ولولا رخص أمر العلاج هناك لما تيسر له أن يرى كما يرى عامّة الناس .
(5)
حضر لزيارة أسرتنا في ثمانينات القرن الماضي ، وفاجأنا بعزفه أغنية بآلة العود ، كتب شعرها و غناها للصغار وسط فرحهم وفرحنا جميعاً . هل لم يزل يقبع الطفل في بطن ذاكرته و يتقافز ؟ . إن الوعاء الثقافي الذي وسع كل الآفاق ، كان يُحفِّز "الدكتور بشرى " ليُجرِّب الموسيقى والشِعر والقص والرواية ، والتحرير الصحافي ، والكثير الذي لا نعرف ، ابتغاء أن يكتمل قمره الثقافي بدراً .
(6)
كان صديقاً للشاعر " عبد الرحيم أبو ذكرى ". قضيا جزءاً من سنوات حياتهما معاً في الاتحاد السوفيتي . وعندما رحل " عبد الرحيم أبو ذكرى " هناك ،كتب قصيدته " سال الشِعر في الطرقات " يرثيه :
*
سال الشعر في الطرقات إلى روح الشاعر الصديق عبدالرحيم أبو ذكرى
*
وهل صفصافة تُنبيك عن أخبار نافذةٍ بشاهقةٍ تألقْ نيزكٌ فيها وخرّ على التوسلِ والمهانة والجليد؟ تأوه طار منه الدمُ غاص الجسم في صدأ الحديد وذاب القلبُ سال الشِّعر في الأسفلت والطرقات تمرُ فجيعة أخرى فيرحل عن قوافينا أبو ذكرى ترى من رمدِ الأشياء في عينيه من … من رجِّ احباطاتنا الكبرى وقد سكنت بقارورات مهجته فكدّرها ؟ أمِن حزن على وطنٍ تباعد عن مخيّلته فكان الموت، أم صمت النشيد؟
*****
وبات الليلُ مسكوناً بفكرته وطورها من الأنقاض للهرمِ وأخرجها من الظلمات والعدمِ ودحرّجها وسطّرها وحبّرها وظل بقربها شبحاً فصارت سلماً لرحيله الليلي مأوىً يستريح به إذ الأوطان في مستنقع الظلمة وظلت في سريرته رخاماً قُدَّ من إرما وجنات من الحطمة وظن بأنها تحميه بين الأرض والسقف من الألمِ ولم يسنده في أيامه السوداء أهل الصبر والقلم تمر فجيعة أخرى فيرحل ليس عن سقمٍ أبو ذكرى * عبد الله الشقليني 17 مارس 2017
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة