عندما أصبح الثقافي تابعاً للسياسي، افتقدنا الرؤية الاستراتيجية، فخسرناهما معاً، عندما أصبحت النخبة تابعاً، أضحت مايو، كأنها عيد من أعياد الانتلجنسيا، التغيير يصبح ضرورة عندما يصل الفكر إلى ربى التقاعس.. عندما وصل مؤتمر الخريجين تلك الربى، توزّعَ دمه بين طائفتي الختمية والأنصار. تلك اللحظة من تاريخ السودان يجب التوقف عندها، تلك اللحظة المشار إليها حملت ضمناً تخلي الطليعة عن درورها، بتسليم قيادها للطائفية، ذاك هو المنعطف الذي تدحرجت بعده النخبة إلى الخيار الأسوأ، وهو الالتحاق بالطغمة العسكرية. صحيح أن بعض النخبة يقلِد الآخر، وصحيح أن غالبية العامة لا تعترف بالآخر، صحيح أن شعور البعض بالدونية يهزم رسوخنا، ما ينقصنا هو ذاك المتمرد المتحيِّز، المؤمن الفنان، الذي يدفع بنا في الاتجاه الصحيح. ينقصنا المثقف العضوي، دُخري الحوبة، الذي يعمل بما يعلم لخدمة الناس، يخدمهم غير متعالٍ ودون من أو أذى، ينقصنا المنتمي الذي يستوحي قضايا شعبه، الذي يقرن القول بالعمل والتنظير بالفعل، ينقصنا منهج يحث الفرد على إعمال عقله.. هذا بالضبط ما حث عليه الإسلام، فكثير من الآيات تحتوي على، وتنتهي بـ (أفلا يعقِلون ــ تدبرون ــ يفْقِهون). نفتقد الطليعي الذي يفارق القطيع بفهم ووعي، ذاك المتمرد على الثوابت، الذي لا يقبل بالتنظير عوضاً عن المشاركة، نفتقد التمرَّد على الفكرة الأولية / النهائية. أن نبدع فكرة يؤمن بها جمع غفير مِن الناس، شرط أن تكون الفكرة متحركة تقبل الإضافة، الجائع أو النازح مفتقر الكرامة، أو ذاك الذي تلُف حياته البداوة ويعاني الشح في الماء والضياء، لا ينتج ثقافة ولا إبداعاً، مالم يعيش الانسان حياة طبيعية في مجتمع طبيعي، لن يشارك في صنع الحضارة، سيظل يستهلك منتج الآخر وسيظل مكبّلاً، مهما اتّسع فضاؤه. شباب الغربة يغوص كثيراً في خرائط التواصل الافتراضي، لكنه ليس معزولاً عن منتوج الطبيعة من عاج وزينة الرِّياش، ربما فشل المثقفون السودانيون في مقاربة العديد من المناهج والنظريات، فوقع على إثر ذلك انفصالاً في الذات، غير ذاك الذي ضاع معه ثلث الوطن، السودانيون أصحاب جذور ويمتلكون ثقافة جديرة بالتنقيب، وبالفخر. الهجرة ظاهرة انتجهتها ظروف قاهرة، ربما من هاجروا هم الأكثر ارتباطاً وتلاحماً مع أوضاع الدّاخِل، ربما يعرفون الواقع أفضل ممن يجلسون أمام ستات الشاي في قلب العاصمة، الالتزام بقضايا الجماهير والناس، لا يتوقف على القرب الجغرافي، وإنما يتوقف أكثر على الاقتراب النفسي، هناك من يعيش بين الناس ولا يحس معاناتهم. الاغتراب ليس كله شرّاً، وإن كان من بين مظاهره انخراط كثير من يوافع المغتربين في داعش. لو أردت التعرف على السودان القديم عرِّج على تجمعات السودانيين في الخليج وأمريكا وأُوربا، حتى أولادهم وأحفادهم يتشربون النكهة السودانية كقيمة مميزه، مهما اختلطوا بالثقافات المعولمة، ثقافة السوداني في تنوعها عصية على الذوبان، السوداني يظل هو السوداني، ما دامت تصاحبه العمة والجلابية وأخلاق الزول الدوغري الحبوب. akhirlahza
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة