هبَّتْ نسايم الليل، وجاءت الحكايات تترى.. الأرض عزيزة عند ضفة النيل، والمساحة المزروعة صغيرة وملكيتها تشققت بالتوريث، فلم يعد الفرد هناك يمتلك غير كسورٍ قليلةٍ، لكن الهوس الذي ضرب الناس لحيازة الأراضي في الصحراء، حفزته وحدة السدود عندما وضعت يدها على الأراضي الصلعاء، فاستشرى هوس حيازة الرمل بين الناس ــ شفقة ساكت ــ دون توفر مقومات الاستصلاح. الناس هناك يبحثون عن رخاءٍ مُتَوَهَّم، لم يجدوه في جروفهم الضيِّقة على ضفاف النيل، ولديهم قناعة راسخة بأن صحراء العتمور أفضل من السواقي الطين، علماً بأن أياديهم مغلولة عن الاستثمار في البراح بسبب إجراءات الحكومة، التي لا تمنح التصديقات لزراعة أي أرض “فوق الظلط”، بحجة أن تلك الأرض حكومية وليست للأهالي. الغلاء فاحش، وما تشتريه بجنيه واحد في الخرطوم، ثمنه جنيهان في ربوع الشمال، التي يشكو أهلها من تفشي السرطان، ذلك الداء القاتل.. لا يوجد مسح أو دراسة علمية تتحدث عن أسباب تفشي المرض، أوعن معدلات الإصابة بذلك الداء الذي تسبب في هلاك الكثيرين، لكن خبر الموت به لم يعُد يستدعي دهشة المندهشين.. الناس هناك، يسمعون ــ فقط ــ ما يعجبهم من قول الذي يقول.. رأيت أفراداً من جماعة “التفكير في الهجرة” يجادلون أحد المصلين لإقناعه بالترحال معهم.. وقفت أتَسَمَّع تعليقاته على الاُطروحة، وأنا عليمٌ بنوعية الردود الجاهزة، القابعة في طرف اللسان. هناك ضيف عزيز حل بين أهل الشمال هو الكهرباء.. فقد وصل التيار الكهربائي إلى بيوت الأهالي قبل سنوات قليلة. بفضل من الله، شربوا الماء البارد والمشتهى في تلك الفلوات.. اليوم يتنادون للإستفادة من الكهرباء في رفع المياه من مجرى النيل لري جناين النخل وزراعة البرسيم والبقول.. في هذه الأيام ينحسر نهر النيل حتى يصبح شريطاً ضيِّقاً و كسيحاً جداً.. خلال هذه الأيام وحتى يونيو، ينشغل الأهالي في نفير جماعي لحفر الكوديق وتوصيل مضخات المياه بحفرة في الرمل تربط مضارب الماكينات بتيار النيل الرئيسي. العمل في حفر الكوديق قد يستمر بشكل يومي، لأن النيل في هذا الوقت من العام، يبدي شروده وعزوفه عن الضفاف، كأنه يضيق ذرعاً بساكنيه.. أهم الصروح أنشئت في حلتنا، إن أحد المحسنين من بلاد الخليج، اكتشف فجأة ذلك المكان القابع في طي النسيان، فتبرع بتشييد مسجد في مكان الزاوية. في باحة المسجد يلتقي أهل القرية في أوقات الصلاة، وفي المسائيات، ويقيمون مناسباتهم في المسجد الذي أصبح قبلة لعابري السبيل ولجماعة التفكير في الهجرة.. عدد الشباب خفيف جداً، مقارنة بذوي المشيب.. الشِّباب أما هاجروا إلى بلاد النفط أو غادروا إلى المحس بحثاً عن “الدهب”، ومن بقى منهم قاعِد في الحلّة مجبور. الأنس يطيب مع العواجيز، الذين أرهقتهم الأيام صعوداً وهبوطاً. أولئك العواجيز، لديهم رصيد من السخرية يتدفق في وجه حكومة الخرطوم، يكاد يطرح أرضاً، برنامجها الحضاري..! akhirlahza
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة