Mark hertsgaard, Bravehearts : Whistle-Blowing in the Age of Snowden. hotbooks, usa 2016
ما دوافع إقدام إدوارد سنودن على فعلته عندما سلّم في شهر حزيران (يونيو) عام 2013 الصحافيين لورا بُيتراس وغلِن غرينولد، وثائق التجسس العائدة إلى وكالة الأمن القومي؟ هل كان الربح؟ أم الشهرة؟ أم أنه خائن لبلاده التي عرّض أمنها القومي للخطر؟ أم أنه وطني شجاع اضطر للجوء إلى الطريق الذي اختاره بعدما أدرك عقم سلوك طريق تعليمات مؤسسته بخصوص المسربين وواجباتهم؟ كتاب «الأبطال: التسريبات في عصر سنودن» يجيب عن هذه وغيرها من الأسئلة عبر متابعة رحلة المسرِّب الأكثر شهرة في العالم، من مواطن أميركي ملتزم بسياسة بلاده، إلى فاضح لمقدار تجسس مختلف أجهزة استخبارات الولايات المتحدة ومؤسساتها وهيئاتها، على العالم أجمع بما في ذلك مواطنوها.
إعلام المؤسسات الحاكمة في الغرب، شن حروباً تضليلة على سنودن، مدعياً أنه كان بإمكان المسرب اللجوء إلى الضوابط الداخلية التي وضعتها المؤسسات لتصويب الأخطاء ولحماية المسربين، من دون إلحاق الضرر بأمن الدولة ومؤسساتها والعاملين فيها. يجيب المؤلف مارك هيرتسغارد بالقول إن تلك الترتيبات الداخلية لم تكفل للمسرب أي حماية، ولم تؤدِّ إلى أي تصويبات في سياسات المؤسسات الأمنية في الولايات المتحدة. بل إن تلك المؤسسات ترى أن المسربين يشكلون خطراً عليها، وتجب ملاحقتهم قانونياً وسجنهم ليكونوا عبرة لغيرهم. قبل استئناف عرض الكتاب، لنتذكر الآن عواقب تسريب خبر يوم 20 آذار (مارس) الماضي بأن سلاح الجو الألماني هو الذي أمدّ قوات التحالف العدواني الأميركي على سوريا بإحداثيات موقع الغارة قرب مدينة الرَّقة السورية، التي أدت إلى سقوط مئات الضحايا المدنيين السوريين. طبعاً هذا لا يرد في المؤلف لكننا نورده لدعم تقصي الكاتب بأمثلة حديثة. لم يكن مصدر الخبر عن دور سلاح الجو الألماني ناطقاً عسكرياً أو أي جهة رسمية، وإنما مسرِّب لا يزال مجهول الهوية حتى الآن. أما رد الحكومة الألمانية، فتمثّل في توجيه المدعي العام تعليمات بتقصي مصدر التسريب ومحاكمة المذنب، إن تم التعرف إليه، بتهمة تسريب أسرار الدولة. حقيقة أن المسرّب ما زال مجهولاً، تؤكد أن هدفه ليس الربح أو الشهرة. باختصار، كما نرى أنّه بعد هذه الجريمة، لقد أدرك ضرورة سد ثغرة رآها في تقصيات سلاح الجو الألماني وحلفائه، وأدت إلى قتل وجرح آلاف المدنيين الأبرياء في سوريا والعراق، كانت آخرها غارة التحالف الناتوي على الموصل التي أدت إلى سقوط أكثر من مئتي ضحية مدنية، إضافة إلى مئات آخرين من المصابين. بالعودة إلى قضية سنودن، وما أوردناه آنفاً نعده حيوياً لمعرفة المعنى العميق وراء التسريبات وأهميتها في فضح عالم الاستخبارات السري الذي يريد التحكم في كل شيء، ويرفض خضوعه لأي مساءلة. يقول الكاتب إنّ فهم سبب اختيار سنودن الطريق العلني لفضح لا قانونية برنامج التجسس لوكالة الأمن القومي، يقتضي العودة إلى قضية توماس دريك، الذي كان أيضاً من العاملين في تلك الوكالة، لكنه كان أعلى مرتبة منه حيث كان عضواً في «الخدمات التنفيذية العليا». تبيّن لتوماس أن الوكالة تقوم بأعمال لا قانونية، فقرر اللجوء إلى التعليمات الرسمية بخصوص تصويب أخطائها [كذا!]. يتعامل الكاتب مع قضية دريك بتفاصيلها، مانحاً إياها مساحة مهمة من المؤلَّف، ومذكراً بأنه اعتقل وتعرض لحملة إعلامية ولمخاطر الحكم عليه بالسجن مدى الحياة، إضافة إلى الخراب المالي الذي لحق به، تحديداً بسبب سلوكه الطريق الرسمي لفضح التجاوزات التي رآها داخل تلك الوكالة الأمنية. لم يعر الإعلام الأميركي أي اهتمام لتسريباته عن برامج الوكالة للتجسس على المواطنين، ما يعني أن الرأي العام الأميركي لم يتسن له معرفة حيثيات القضية وبالتالي التفاعل معها كما يجب. لكن سنودن ــ وفق الكاتب ـــ تعلم من تلك القضية بألا يتبع طريق دريك رغم إيمانه بضرورة فضح الوكالة وبرامجها التجسسية على العالم؛ بل يقال إنّ سنودن لم يكن موجوداً، لو لم يكن هناك توماس دريك. توماس دريك، الذي أسهب المؤلف في وصف معاناته بسبب اتباعه تعليمات التسريب الرسمية، قال: «في حال اتبع سنودن الطريق ذاته الذي سلكتُه، لتم سحبه على الفور من التداول». وقال دريك إنه نقل كل ما لديه من معلومات عن تجاوزات خطيرة في وكالة الأمن القومي إلى ذوي الاختصاص، بل إنه لجأ إلى الكونغرس، لكنّ أحداً ما لم يكترث لأقواله. أكثر من ذلك، إنّ أقواله أمام لجنة متخصصة في الكونغرس اختفت من محفوظاته! أما دريك الذي وصل إلى مرتبات عليا وتكريم قومي خاص، فقد انتهى به الأمر للعمل بواباً في «شركة آبل». ما يجعل من هذا المؤلف مهماً أن الكاتب تمكن من التعريف بالشخص الثالث المهم في قضية سنودن. تطوع هذا الشخص للإدلاء بشهادته وباسمه الحقيقي للمرة الأولى. إنه جون كرين الذي شغل منصب المفتش العام في وزارة الدفاع الأميركية. وبالتالي كان مكلفاً بالإشراف على المسربين داخل الوزارة ووكالة الأمن القومي ومتابعة قضاياهم فيهما، مع أن لا دريك ولا سنودن عرفا بوجوده. أوصى جون كرين بالتحقيق في أقوال سنودن وبمنحه فرصة تحقيق عادلة، علماً بأنه مكلف بمهمة عدم توافر أي إمكانية لظهور سنودن آخر. وكان كرين هو من وضع برنامج لمتابعة كافة المسربين في أعقاب ظهور قضية الضابطة المتحولة جنسياً تشلسي مننغ المكلفة بتحليل معلومات الجيش الأميركي الاستخبارية، وقد سربت آلاف الأوراق لموقع وكيليكس، ومنها فيلم نقل مباشر يظهر قتل طائرة سنتية أميركية مجموعة من المدنيين العراقيين، ما أدى إلى انتهاء الأمر بها إلى السجن. من الأمور الأخرى التي يتناولها الكاتب هي مسألة ادعاء بأن الحكومة يحق لها وحدها تقويم ما إذا كان من الواجب كشف هذا أو ذاك من الأسرار للعالم، وأنه من غير المقبول إطلاقاً أن يقرر موظف ما فضح أسرار من دون العودة إلى رؤسائه. يذكر الكاتب القارئ بأنه في تلك الحالة لم يكن ممكناً أبداً معرفة أكاذيب إدارة بوش بخصوص مزاعم امتلاك عراق صدام حسين أسلحة الدمار الشامل، ولم يكن ممكناً معرفة جرائم سجن أبو غريب وبرامج التعذيب العائدة لوكالة الاستخبارات المركزية وسجونها السرية في مختلف بقاع العالم، وما إلى ذلك من الجرائم التي قد تكون مسحت من ذاكراتنا الحديثة. يعلمنا الكاتب، وهو صحافي مستقل، أي لا يعمل موظفاً في أي مؤسسة إعلام/تضليل، يعلمنا أنه نقل قصص كثير من المسربين ونشرها في صحف ومجلات عائدة للمؤسسات الحكومية ومنها «فانتي فير» و«اللوموند دبلوماتيك» و«هيئة الإذاعة البريطانية» وغيرها، وأن عمله الذي يمتد أكثر من ثلاثين عاماً، بيّن له أن التسريبات تمارس أدواراً في الحياة العامة أكثر حيوية مما يظن، وأنه من الواجب منحها اهتمامنا وتفهمنا. لكن هذا لا يعني منح كل مسرب محتمل شيك على بياض لفضح كافة أسرار الدولة التي يصل إليها. الأب الروحي للمسربين هو دانيال إلسبرغ، صاحب ما يعرف بأوراق البنتاغون السرية، التي سربها عام 1971 ونشرت في صحيفتي «نيويورك تايمز» و«واشنطن بوست»، بينت أن الإدارة الأميركية وصلت قبل تاريخ نشر الوثائق إلى نتيجة استحالة ربح الحرب في فييتنام وعليها. يرى الكاتب أنه كان من الأفضل للحكومات الأميركية إعلام الشعب الأميركي بأن حرب فيتنام خاسرة بدلاً من التضحية بأرواح وصحة مئات الآلاف من الأميركيين، وأنه كان من الأفضل لوكالة الأمن القومي مخاطبة الحكومة والشعب الأميركيين بالقول: إن أمننا القومي يستدعي منا تنفيذ برنامج تجسس مسهب. ينشر الكاتب تفاصيل مهمة حول قضايا أخرى اختار مسربوها سلوك الطريق الرسمي للكشف عنها، منها على سبيل المثال قضية الشرطي في مدينة نيويورك فرانك سربيكو الذي فضح فساد جهاز الشرطة في المدينة (تحولت القضية إلى فيلم «سربيكو» عام 1973 من بطولة أل باتشينو)، وقضية جفري ويغند التي تحولت عام 1999 إلى فيلم the insider، وكذلك قضية الإشعاعات النووية التي استحالت فيلماً عام 1984 عنوانه «سيلكوُد» من بطولة ميريل ستريب. ويضاف إلى ذلك قضية البريطانية كاثرين غن، التي كانت في وكالة استخبارات بريطانية شبيهة بوكالة الأمن القومي الأميركية، وفضحت مساعدة مؤسسات الأمن الأميركية في التجسس على مندوبي حكومات أخرى في الأمم المتحدة، في الوقت الذي كانت فيه إدارة بوش وحكومة طوني بلير تحاول استخراج قرار من المنظمة الدولية يسمح لهما بغزو العراق. ويضيف إلى قائمة المسربين سينثيا كوبر العاملة في «شركة ورلدكُم»، التي فضحت غشها مصلحة الضرائب بنحو أربعة مليارات دولار، والقائمة التي أوردها الكاتب تطول وتطول. عندما التقى سنودن البريطانييِّن، ومعهما الصحافي يوِن مكسكل، سأله الأخير أثناء اللقاء في هونغ كونغ، عن توقعاته بخصوص مصيره الشخصي، فقال: لا شيء جيد. سنودن كان يعلم أن مصيره حالك، لكنه كان على قناعة بأنه فعل الأمر الصحيح وهو عائده الوحيد، وأنه مستعد لدفع ثمن قناعاته. أما مدير وكالة الأمن القومي الجنرال مايك هايدن، فقال إبان هجمات الحادي عشر من أيلول ضاحكاً أثناء استجوابه: يبدو أنه علينا وضع اسم سنودن على قائمة الاغتيالات! أما مدير وكالة الاستخبارات المركزية، فينقل عنه قوله لقناة «سي. إن. إن» إنه يريد رؤية سنودن معلقاً على حبل المشنقة، حتى الموت، وليس قتله على الكرسي الكهربائي! يشدد الكاتب على أن معظم المسربين مجهولون يدفعون أثماناً مادية ونفسية فادحة لشجاعتهم، ما دفع كثيرين منهم إلى وضع تعليمات للمسربين المحتملين بخصوص الطرق التي عليهم اتباعها للنجاح في مساعيهم لتصويب الأمور وتفادي اعتداءات المؤسسات ذات العلاقة عليهم. للتذكير فقط، إن سنودن تطوع للخدمة في القوات المسلحة الأميركية عام 2003 عندما كان الشارع في مختلف أنحاء العالم يتظاهر ضد خطط بوش لغزو العراق، وقال: لم أكن أتصور أن أقوال حكومة بلادي كانت تكذب بخصوص امتلاك نظام صدام حسين أسلحة دمار شامل. الإجابة عن سؤال ما إذا كان إدوارد سنودن خائناً يتطلب العودة إلى التعريف السائد للخائن، وهو الشخص الذي يضحي بمصلحة بلاده من أجل مصلحة شخصية، وهذا لا ينطبق على هذا المسرب الأميركي. حتى الرئيس أوباما في معرِض رده على المطالبة بالعفو عن سنودن، لم يصفه بالخائن الذي لا يمتلك أي أسباب مخفِّفة، بل لجأ إلى الكذب عندما قال إنه من غير المسموح له أن يعفو عن شخص لم يمثل أمام محكمة ولم يصدر حكمُ عليه. خبير الدستور الأميركي أوباما كان يعلم أن هذا غير صحيح لأنه على دراية بأن الرئيس جيرالد فورد أصدر عفواً عن الرئيس نيكسون من دون أن يمثل الأخير أمام أي محكمة.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة