في أثناء ما كانت معركة كرري تدور بين جيش كتشنر وجيش الخليفة عبدالله أرسل الجنرال كتشنر كتيبة الخيالة البريطانية التي تسمى اللانسرز إلى أم درمان محاولاً الوصول إليها واحتلالها قبل أن ينسحب إليها جيش الخليفة. ولكن وللمفاجأة وجدت كتيبة اللانسرز قوات من جيش الخليفة بقيادة الأمير عثمان دقنه تكمن لها في طريقها إلى أم درمان في خور شمبات، وكانت هذه مفاجأة للفرقة البريطانية حيث كان الكمين الذي أعده لها الأمير عثمان دقنه، كمينا نموذجياً لا زال يدرّس في أرقى الكليات العسكرية في العالم، وفي ذلك الكمين فقدت قوات كتشنر عدداً مقدراً من جنودها، ونورد هنا وصف المعركة كما كتبها الرائد عصمت زلفو في كتابه (كرري). وصل الأمير عثمان دقنه أم درمان حيث استقبله الخليفة عبدالله أحسن استقبال وقام الأمير دقنه بإلقاء خطبة نارية على حشود قوات الخليفة. استعد الخليفة عبدالله للقاء جيش كتشنر في كرري (ونحن ننقل هنا من كتاب كرري لمؤلفه الرائد عصمت زلفو)، وقام بتوزيع المهام على قواده وكانت مهمة الأمير عثمان دقنه التي أوكلها له الخليفة هي حراسة طريق انسحاب جيش المهدية إلى ام درمان وقطع الطريق على جيش كتشنر لو حاول التسلل إلى أم درمان. ولكن الأمير نظّم صفوفه بسرعة وأخذ في استغلال مهمته لأبعد مدى ممكن، على الرغم من أنه أفتقد أحسن معاونيه ولم يبق معه إلا إبراهيم سعيد، فتقدم الأمير دقنه برجاله نحو جبل سركاب واختار بقعة كبيرة من وادي أبوسنط، وهي تبعد قليلاً من النيل، ثم جعل حملة البنادق يصطفون على الضفة الشمالية خارج الوادي وقوفاً، بحيث يبرزون من مسافة بعيدة كهدف سهل. وأمر الباقين بالجلوس على الأرض ووضع كل منهم سيفه وسكينه المعقوفة بالقرب منه. واستمر السكون حتى الساعة الثامنة والنصف حين قطعته ضجة طلائع (ربع التعزيز من جيش المهدية) ثم أسرع الأمير دقنه بإعادة تنظيمهم، ففصل حملة البنادق وضمهم إلى بنادقه في أعلى، وضم حملة السلاح الأبيض إلى رجاله قعوداً على الأرض. كان الخليفة كثير الإهتمام بالمعركة المرتقبة فتخلى عن موقع رئاسته الأمن وتقدم للإشراف على المعركة، فلما وصل الخليفة مباشرة بربع التعزيز أسرع الأمير دقنه لاستقباله، ونقل الخليفة للأمير دقنه ما شاهده من تقدم فرسان العدو، فعاد الأمير دقنه لتنظيم قواته بترتيب جديد. كان الجنرال كتشنر سردار الجيش المصري يتوق للوصول إلى أم درمان واحتلالها قبل وصول الخليفة إليها، بل كان مستعداً للمخاطرة، ولقد كان رد السردار للكولونيل مارت قائد الخيالة البريطانيين (تقدم ونظف الطريق من اليسار ـ طريق النيل وابذل كل جهد لمنع العدو من العودة إلى أم درمان). لم يتقدم الكولونيل مارتن نحو النيل لفتح الطريق لتقدم المشاة، ولكنه انحدر بهم شرقاً في اتجاه النهر باتجاه مائل قليلاً لجهة الجنوب، إلى أن حاذى وادي أبوسنط الذي وقف حملة البنادق من الأنصار في أعلاه وبدأوا يطلقون النار على الكتيبة. كان إبراهيم سعيد هو قائد حملة البنادق من جنود الأمير دقنه، وكانوا يقفون على أقدامهم خارج الوادي، أما داخل الوادي فكانت صفوف حملة السلاح الأبيض. وعندما اكتملت التنظيمات النهائية لكمين فرقة اللانسرز البريطانية وكان أكثر من ألفي مقاتل يجلسون على الأرض وارتفعت أسنة رماحهم إلى أعلى، وقف بعد ذلك الأمير دقنه خطيباً فيهم مذكراً إياهم أن المهم هو إنزال الأعداء من على خيولهم حتى يترجلوا على الأرض، ويمكن بعدها إحداث الخسائر لأنه إذا فقد الأعداء الراكبين خيولهم وترجل فرسانهم، كان من السهل بعد ذلك إبادتهم، ثم أشار الأمير عثمان بيده لحملة البنادق لفتح نيرانهم، فبدأ فرسان العدو يتساقطون واحداٌ بعد الآخر وذلك لأن الهدف كان واضحاً علاوة على قرب المدى للبنادق، ثم أشار بيده إلى حملة البنادق لإيقاف الضرب خشية أن يتقدم العدو مباشرة نحوهم أو يلتف حولهم، وعندما اكتملت صفوف العدو واندفعوا في هجمتهم السريعة امر الأمير دقنه رجاله بالنهوض استعداداً لملاقاتهم فعزز فرسان فرقة اللآنسرز (الرماحة) مهاميزهم في الجياد، واندفعوا نحو الأنصار مشرعين رماحهم الطويلة أمامهم، واضطر صف البنادق من رجال الأمير دقنه إلى التقدم، ومنهم من استلقى على ظهره في الأرض وقد رفع رمحه وسيفه في الهواء لبتر كل من يمر فوقه، ومنهم من وقف مشرعاً سيفه لينزل على أول جسم يصطدم به. وبعد أن تناقصت المسافة الفاصلة بين القوتين جاء الاصطدام المروّع. ثلاثون ثانية وكانت المعركة قد وصلت إلى قمتها، فتعالت أصوات سقوط الحديد على الحديد، وسيوف الأنصار تصطدم مع حراب الرماحة الطويلة، فلم يعد أي مجال لاستخدام البنادق وما ارتفع ساعد استعماري ليصوب بندقيته إلا وبتر وتنزل سيوف الأنصار لتبتر كل ما يقابلها. دامت المعركة الدموية الهائلة مائة ثانية، ولقد قاتل رجال الأمير دقنه بشجاعة وعزيمة، الأمر الذي مكنّهم من الإمساك بخناق العدو واقتلاع النصر منه، وعاد الأمير دقنه مرة أخرى وسط رجاله ليعيد تنظيمهم بنفس الترتيب السابق، ولكن عندما حاول الكولونيل مارتن الإلتفاف حول جنود الأمير دقنه أسرع الأخير في إعادة مواجهته واستمر اطلاق النار بضع دقائق، ولقد أصبح الحل الوحيد أمام الأمير دقنه هو الالتحام بالعدو بسرعة حتى لا يترك مسافة بعيدة تمكّن العدو من استخدام نيران مدفعيته. وبعد أن ضمن جذب عدوه أعد الأمير دقنه العنصر الأول من المفاجأة ليكون فيه المظهر غير المخبر، أي الظهور بمظهر يختلف عن الحقيقة، ووجد العدو نفسه غارقاً وسط خضم بشري مسلح يزيد على الألفين، أما العنصر الثاني من المفاجأة فهو السرعة، أي سرعة توجيه الضربة القاضية. لقد كان الأمير دقنه رائعاً سواء في تخطيطه للمعركة أو في إدارتها أثناء اشتعالها، بارعاً في جذب العدو نحوه وإغرائه بالهجوم، وكان كذلك معلماً في توجيه الضربات للخيل وحكيماً في رفضه لمطاردة عدو راكب. انتهت معركة كرري بانكسار جيش المهدية أمام المكسيم سلاح الدمار الشامل الذي كان استعماله محرماً في الحروب بين الأوربيين، وبجحافل المستعمريّن البريطاني والمصري ومعهما مرتزقة سودانيين وبعد أن ضرب كل فرد في جيش المهدية أروع الأمثلة في البطولة والتضحية واحتقار الموت، ولم يكن أمام الخليفة عبدالله إلاّ الانسحاب نحو الغرب والاستعداد مرة أخرى لمواصة النضال لتحرير البلاد واجلاء المستعمر الغاصب عنها.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة