قد يرى البعض أن القانون الجنائي قانون مقدس ، ذلك أن الله تعالى وضع جزاءات أخروية للشر البشري ، وترك للبشر طريقة الدفاع عن الخير عبر القانون في الدنيا ؛ أي أن القانون الجنائي هو يد الله في الأرض لدحر الشر . وهكذا تتقدس مبادؤه كمبدأ المشروعية ، ووحدة السلوك الإجرامي ، ومبدأ الدفاع الشرعي والعقوبات المترتبة على الجريمة تمثل دحرا دنيويا للشر الذي يحاربه الله . لقد مر القانون الجنائي -على هذه الصورة- بمراحل تطور ، كمرحلة المدرسة التقليدية التي نادت بحرية الإرادة بشكل مطلق فنتج عن ذلك عقوبات شديدة القسوة تصل الى مرحلة التعذيب الشديد -أنظر في أمثلة هذه المرحلة كتاب المراقبة والعقاب لميشيل فوكو- ثم مرحلة المدرسة الوضعية التي خففت قليلا من نزعة القسوة ووصولا إلى مدرسة الدفاع الاجتماعي . وعندما نقول بأن القانون الجنائي مقدس وأن عقوباته دحر للشر من الله ، فهذا يعني أن تحديد الجرعات العقابية ستتذبذب بين تيارات دينية مختلفة بين الليبرالي والراديكالي وما بينهما ، ولذلك يرى البعض أن من الأفضل القول بأن القانون الجنائي ليس مقدسا وإنما قانونا أخلاقيا ، هنا -ورغم اشكالية حدود الأخلاق- تكون الأخلاق معيارا لسياسة التجريم والعقاب ، فيصبح القانون الجنائي أكثر مثالية كلما اقترب من القانون الطبيعي والأخلاقي ، ولا تبدو هناك إشكاليات كبيرة في مسألة التجريم اللهم إلا فيما يتعلق بحدود النشاط المجرم ، ولكن الإشكالية الحقيقية تكمن في صور وتقدير الجرعة العقابية ، ففي درجة أخلاقية محددة ترفض مجتمعات الحداثة بعض نماذج العقاب مما يضعها في حالة صدام مباشر مع مجتمعات أخرى قد تستقي حدودها الأخلاقية من العرف أو الدين . على هذا تثور المشاكل حول صورة العقوبة نفسها ، كرفض بعضها مثل الرجم والقطع والجلد والاعدام، ودرجتها كرفض السجن قصير المدة (الذي يؤدي إلى فقد العقوبة لخاصية الردع الخاص بل وتحول المجرم من مجرم بالصدفة إلى مجرم معتاد على الإجرام نتيجة اختلاطه بغيره من عتاة الإجرام) والسجن المنفرد الذي (قد يفضي إلى الجنون) وغير ذلك من مؤأخذات. إذا فإشكالية القانون الجنائي تكمن في السند الأخلاقي أو العرفي أو الديني الذي يستند عليه ؛ فيما يتعلق-على وجه الخصوص-بصورة العقاب والجرعة العقابية ، فالسند الإلهي والسند الأخلاقي يثيران كليهما تنافرات وتصادمات مختلفة ، وعليه -إذا فهمنا هذه النقطة- فلا يجوز لأي طرف أن يدعي امتلاكه للحقيقة المطلقة ويكون تدخل منظمات حقوق الإنسان الرافضة لبعض صور العقاب هي تدخلات لا تراعي خصوصية السند الذي يستند له القانون العقابي في مكان وزمان معينين . 5نوفمبر2016
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة