استيقظت رغدة مرعوبة.. رأت في منامها برميل اللهب الطائر.. إنه سلاح الحكومة في معاركها مع الثوار.. هدأ روع السيدة السورية حينما رأت فلذة كبدها باسل يفصل بينها وبين زوجها عادل المكي.. الصغير هجر فراشه المستقل وجاء إلى حيث أمه.. أغلب الظن أن بقايا الحرب ما زالت تسيطر على مخيلة الطفل ذي الثلاث سنوات.. ابتسمت حين رأت زوجها يغط في نوم عميق بينما طفلها يضع يده الصغيرة على قلب رجل من المفترض أن يكون غريباً عليه.. ابتسمت حينما اقتنعت أن طفلها مثل علامة وصل لا فصل بينها وزوجها الحبيب. حاولت أن تغمض عينيها وتستدعي النوم.. ذكريات الوطن الجريح ترفض أن تغادر المخيلة.. كانت الحياة رائعة وجميلة في سوريا.. الحكومة في وادٍ والنَّاس في وادٍ آخر.. كل ما في الأمر أن الأمن كان متوفراً.. والدها يمتلك متجراً كبيراً في سوق حلب لبيع المنسوجات.. بعد أن أكملت الثانوي رفضت الانتظار في البيت.. مضت إلى جامعة دمشق لتدرس الفلسفة.. لم تقابل الكثير من السودانيين في حياتها.. رأت طلاباً سمراً في الجامعة ولكنها كانت بعيدة عن عالمهم.. بل في كثير من الأحيان كانت تشعر نحوهم بالاستعلاء العنصري.. زملاء آخرون اعتبروا كل الطلاب الأجانب مجرد عملاء للحكومة، وأن حصولهم على منح دراسية جاء لأسباب سياسية.. الإحساس بالتوجس المصحوب باستعلاء جعل رغد عبد الصبور بعيدة عن عالم السودانيين في الجامعة. حينما بدأت الحرب الأهلية كانت رغد زوجة في نهاية العشرينات .. بدأت الأمور بانتفاضة شعبية ظن الشباب المتحمس أن النظام غير المسنود بأغلبية سيسقط.. بسرعة تحولت الانتفاضة إلى مواجهة دموية .. ظلت رغدة وعائلتها بعيدة عن الحرب التي تجري في أطراف المدن .. لم تشعر بألسنة اللهب إلا حينما احترق سوق المدينة.. فقد الحاج عبد الصبور مصدر رزق الأسرة.. بعد ذلك بقليل تم استدعاء زوجها كمال الحلواني لأداء الخدمة العسكرية.. كان هذا يعني أن يشارك الزوج الذي لم يتلق تعليماً جامعياً في الحرب ضد أهله .. لم يكن هنالك خيار.. بعد ثلاثة أشهر جاء زوجها ملفوفاً بالعلم السوري.. الحكومة اتهمت جماعات إرهابية بتفجير معسكر التدريب.. المقاومة الشعبية أكدت أن الحكومة صفّت الرافضين خوض الحرب.. لم يكن الأمر مختلفاً للأرملة الشابة، لأن النتيجة باتت واضحة.. الوطن تحت الخوف والجوع أصبح طارداً. بدأ الحاج عبد الصبور يفكر في الهجرة.. كل البلاد يصعب الوصول إليها.. الوصول لتركيا مجازفة لأن الأمر يتطلب اجتياز مناطق ملتهبة.. لبنان الحياة فيه صعبة.. تذكر الحاج عبد الصبور زبونه القديم مكي النساج المقيم بأم درمان.. كان هذا السوداني من أكبر عملائه الذين يزورون سوريا بشكل راتب.. حجم المشتروات كان يشير إلى سعة الحال.. كل سجل المعلومات احترق مع برميل اللهب الذي سقط ذات مساء على متجر الأسرة في سوق المدينة .. تتذكر رغدة أن والدها كان واثقاً إن وصلت الأسرة إلى أم درمان ستجد الفرج. اكتملت الترتيبات للسفر للسودان.. السلطات رفضت تجديد جواز الحاج عبد الصبور وأم رغدة.. سمح للسيدة الشابة بالسفر باعتبارها زوجة شهيد على أن تعود خلال ستة أشهر.. الآن الذاكرة بدأت تخضر .. هبطت رغدة في رابعة النهار.. كان في محفظتها نحو ثلاثمائة دولار.. أوصاها الوالد أن تذهب إلى سوق أم درمان محملة برسالة إلى صديقه القديم المكي النساج .. ابتسامة رجل الشرطة في وجهها منحتها ثقة.. سألته عن أم درمان ..التجاوب جعلها تكمل القصة.. تجمع حولها عدد من الضباط .. كل واحد يحاول أن يساعدها مستخدماً الهاتف.. بعد ساعة ونصف جاء إلى المطار عادل المكي النساج . كان عادل شابًا وسيماً طويل القامة في مستهل الأربعينات .. يبدو عليه الخجل .. رحب بها كثيراً.. شعرت بالاطمئنان أكثر حينما اقتربت السيارة الفارهة من شارع النيل .. هنا تبدو الخرطوم خضراء وجميلة.. أخبرها المضيف أن والده توفي قبل عامين .. وأن شقيقه الكبير تولى الأعمال في مجال المنسوجات بينما انصرف هو إلى مجال المقاولات بسبب دراسته للهندسة.. مضى الأنس هادئًا بين لاجئة ورجل أعمال ناجح، ولكنه غير متزوج.. زادت المودة حينما هرع إلى مساعدتها بحمل طفلها الصغير عند باب المنزل بمدينة الروضة.. أسعد اتصال هاتفي لرغدة كان مع والدها قبل ستة أشهر حينما تحمس لخبر نيتها الزواج من ابن صديقه القديم.. بدأ النوم يتسلل إلى عيون اللاجئة التي كادت أن تقول شكرًا للحرب. assayha
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة