كتبت كثيرا ربما مئات المقالات عن المواطنة ..وكتب غيري كثيرا عنها .. لكن هذا كله لم يغير في العقل الجمعي شيء ، فكل ما نقوله وندعوا اليه لا يثير الا ما تثيره قطعة حجر تلقى في اليم .. المواطنة .. ودولة القانون والمؤسسات صارت تبدو أفكار ومفاهيم واطروحات أكثر من الترف والرفاهية ، ولو ان انسانا وجد نفسه في جزيرة كل من فيها يحسب اثنين زائد إثنين تساوى خمسة فمن الأفضل لهذا الشخص أن يفهمها بنفس الفهم السائد وان ينسى المنطق تماما ، لقد نادى الجنوبيون منذ الخمسينات من القرن السابق بالمساواة ، ونادوا بحكم فدرالي نتيجة الاضطهاد الذي شعروا به ، مع ذلك لم يتحرك الشمال نحو احتواء الجنوبيين ثقافيا واجتماعيا ، ظل الانسان السوداني الشمالي بمختلف القبائل عالقا في فضاء القبيلة ، لم يتوفر له عقل استعماري يستطيع الخروج من حدوده الضيقة الى براح الاندماج في الآخر ، عندما حلقت بي الطائرة في سماء جوبا ومنها الى بور وكان ذلك قبل الانفصال ، تحسرت كثيرا على ضياع متوقع لهذا الاقليم الواسع والمليء بالخيرات ، فقط نتيجة لعدم وجود عقل حداثوي يتجاوز ثقافة الماضي البدائية ... عندما هجم الاتراك على السودان..كانت كل قبيلةتدافع عن نفسها منفردة ، الى ان تم الاستحواز الكامل على كافة المناطق ، فكرة الدولة الحديثة كانت مجهولة تماما لدى من يقطنون هذا الإقليم الواسع ، فكرة المصالح المشتركة والمصير المشترك لم تكن معروفة في ذلك الوقت..حتى الثورة المهدية جاءت بدون نظرية سياسية فقط بخلفية دينية وأساس المهدوية كرسالة عالمية لا حدود لها ولذلك فشلت المهدية في الاستمرار بل تحولت في عهد التعايشي الى ارتداد عرقي. أتذكر أنني قرأت مقالا تم نشره قبل سنوات ، وهو يحكي عن تشكيل وزارة الخارجية بعد الاستقلال وكيف أن من عهد لهم تشكيلها قرروا ان تكون هذه الوزارة حصريا لأبناء كرفان ، في اواخر السبعينات وبداية الثمانينات اجتمع ضباط الجيش وكان موضوع الاجتماع هو غلبة النوبة على غيرهم داخل الجيش فهم يمثلون أكثر من سبعين في المائة من أفراد الجيش وما يمثله ذلك من خطر..، في التسعينات تم أسلمة الحرب في الجنوب وبالتالي تحولت الى حرب مقدسة يقتل فيها الجنوبي لمجرد أنه كافر ، لقد شهدت القبائل الجنوبية أبشع حالات الابادة الا أن الإعلام لم يكن قويا في ذلك الوقت ، لقد حكى لي ضباط في الجيش عن هذه العمليات الاجرامية ، وقد ورث الجنوبيون بعد ذلك نفس العقلية الاقصائية وهاهم الآن يمارسون عمليات ابادة متبادلة بينهم ، انتهت حرب الجنوب وتصاعدت الحرب في الشرق والغرب ، وطالبت القبائل بحقوقها عبر مثقفيها وناشطيها ، وتم اسكات الشرق تماما باجزال العطاء والمناصب والوظائف ولم تحاول الحكومة التلاعب بهم او التحلل من وعودها تجاههم ، وذلك لأن الشرق اقليم استراتيجي اقتصاديا وسياسيا ، أما الغرب ودارفور تحديدا فتم النكث بالاتفاقيات الكثيرة والمستمرة التي كان يتم توقيعها مع مثقفيهم مع ذلك تم توزيع المناصب ومليارات الدولارات على المثقفين والشرتايات ، وصارت التقسيمة تتم على أساس الثقل القبلي ، والغريب ان الشمال هو الأكثر تهميشا ، ومع ذلك لم تتحرك ضد التهميش الا قبائل محدودة وفي اشكال معارضة سلمية ولم ترفع السلاح ، وبالتالي ظل الشمال الجغرافي من أكثر الاقاليم بؤسا ، وبدون أي خدمات ، الا انني اعتقد ان ما منع تلك القبائل من حمل السلاح هو ما بثه النظام من تخويف وشيطنة لقبائل الغرب ، وبالتالي وضع نفسه كممثل للشمال ، وبالتالي أوجد مناصرين قليلي الوعي لا يدركون أنهم هم أيضا ضحية للنظام . على كل حال أصبح الارتداد الى القبيلة هوس كل طامع في وظيفة او منصب او ثروة ، وحتى في العاصمة نشأت تجمعات قبلية كتجمع أبناء النوبة ، وتجمع المسيرية ، وتجمع المخزوميين ...الخ وشكلوا نظارات وصارت هذه النظارات تستغل قضية التهميش على أساس قبلي للحصول على مكاسب اقتصادية ، والحكومة لم تتردد في ارضاء هذه النظارات بل ساهمت في تكوينها ودعمتها وبالتالي دعمت النزعة القبلية بقوة ، وذات الامر فعلته في دارفور والنيل الازرق وجنوب كردفان ، قبل شهرين فقط دعمت الحكومة إحدى القبائل في شمال كردفان ضد قبيلة الحمر وذلك بالمال والسلاح ، وبالفعل انقضت تلك القبيلة ومارست ابادة جماعية حقيقية على الحمر ، الذين كانوا دائما يقفون ضد الحكومة ويعطلون بسط سلطتها في مناطقهم ، الا ان اعلام الحمر لم يكن قويا وانتهت هذه الابادة دون ان يسمع عنها من بالداخل ناهيك عن من في الخارج .. إن الدعوات العقلانية والوطنية ستبوء كلها بالفشل مع تفشي الفوضى بهذا الشكل .. وستكون صوتا شاذا داخل شتات الأصوات الصارخة الأخرى..
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة