أيقظت أمونة رجل الشرطة النائم في المكتب الصغير الذي يبدو بطلاء جدرانه المتقشر والخيوط المتهدلة من السقف الآيل للسقوط ، وكأن شخير الشرطي الغارق في عرقه هو الذي يحول دون تهدمه وسقوطه. استيقظ الشرطي مذعورا وتفرق جيش الذباب النائم فوقه، مد يده آليا ليسحب قميص البدلة العسكرية المعلق علي مسمار في الجدار ويرتديه علي مهل ويمسح التراب من نظارته بكم قميصه، قبل ان يضعها فوق وجهه، ليفاجأ بمشهد امرأة تلبس عباءة سوداء وتمد له بورقة وقد إكتسي وجهها غضبا وصرامة. قالت له : هل ينام رجال الشرطة اثناء اداء اعمالهم؟ أشار بيده الي علبة دواء كلوروكوين امامه وعلبة دواء البنادول وقال : انها الملاريا اللعينة.
قالت مندهشة دون ان يخفف ذلك من صرامة وجهها: وهل تصيب الملاريا ايضا رجال الشرطة؟
مد يده ليتسلم الورقة ويقرأ آليا أول سطر فيها، ثم يبادرها بعد ان إستعاد شيئا من إعتداده بنفسه وسلطته التي قللت حمي الملاريا و النوم في هذا القيظ وسط الذباب ورائحة غائط الاطفال في الفناء المجاور من هيبتها.
قال لها هل جننت يا امرأة؟ تريدين تقديم شكوي ضد الحكومة لأن زوجك طلّقك، وخفف من حدة صوته حين وجد انها كانت تنتظره بصبر نافذ، فواصل: وماذا تريدين من الحكومة ان تفعل لك ان كان عندك مشاكل مع زوجك، وابتسم حين تذكر عبارة سمعها كثيرا في جهاز الراديو: ربما تريدين ان تضع الحكومة قوات سلام بينك وبين زوجك! هل نحضر قوات الدعم السريع الى بيتك؟ إنهم مشغولون بمحاربة التمرد، ولأن الحياة لم تعد تطاق بسبب الفقر، يحمل الجميع السلاح، لذلك ربما لن يكون لديهم وقت قبل عدة سنوات! سأرسل طلبا بإسمك ان كان بوسعك الانتظار! صمت قليلا قبل أن يلاحظ: لو أرادت الحكومة التوسط لحل مشاكل الازواج التي إزدادت بسبب الفقر ، فستصبح البلد كلها ثكنة لقوات الدعم السريع
لم تضحك المرأة او حتي تبتسم، قالت له بحزم: الحكومة هي سبب طلاقي !... أقرأ بقية العريضة أولا.
كانت تلك نهاية ثلاثة أعوام من الضياع بدأت في اليوم الذي تقدم فيه عبد النعيم المزارع القصير القامة، الطيب الوجه ليصطحبها من البيت الذي عاشت فيه كل أعوام عمرها مع والدتها وشقيقها. حياتها قبل ذلك كانت تبدو امتدادا لبحر الرمال الذي يقع بيتهم الصغير وسطه محاطا بأشجار المسكيت التي لم تفلح كثيرا في صد بحر الرمال الزاحفة وأحيانا كانت تشرق عليهم الشمس وهم نصف مدفونين في الرمال. لقرابة الثلاثة عقود كان برنامجها واحدا، تستيقظ صباحا لتحلب الماعز وتعد الشاي لأمها وشقيقها ثم تخرج لتجمع بعض جريد النخيل لتعد طعام الافطار ثم تنطلق مع ثروتهم القليلة من الماعز والضان الي بقايا حقول الذرة والقمح.
ثمة احتمال واحد تضاءلت فرصه بمرور السنوات للخروج من رتابة حياتها. ان يظهر شخص ما طالبا الزواج منها.ما ان ينتهي موسم الشتاء ويجمع المزارعون المحصول ويبيعونه للتجار حتي ينتعش سوق الزواج وتنطلق الزغاريد تمزق رتابة خمول الحياة في موسم الصيف الحار، حيث لا تبقي من وسائل للتسلية سوي انجاب الاطفال او الموت. اما ان تقام الافراح او يتقدم شخص ما يطلق عليه اسم كبودار يكون في العادة صبيا يركب حمارا يجوب به القري ليعلن موت شخص ما فيندفع الناس لحضور مراسيم التشييع والبقاء بضع ايام في المسيد الذي تقام فيه مراسيم العزاء ويكون هناك في العادة اكل جيد وتبغ وفرصة لسماع الاخبار.
كل بداية صيف كانت أمونة تجلس ترخي أذنيها استعدادا لسماع صوت خطوات ذلك القادم، فلا تسمع سوي صوت الريح العابرة بين كثبان الرمال الغاصة بشجيرات نبات الحلفاء.أسلمت نفسها لكل أنواع البخور والادوية التي تحضرها أمها من شيخ علي الحزين لفك العارض الذي يمنع زواجها، دون جدوي، وعاما تلو عام كانت تقدم تنازلات جوهرية في مواصفات ذلك القادم ، نزعت عنه بمرور السنوات صفة الفارس وأركبته حمارا بدلا من الحصان الابيض. واكتفت اقتصادا في الاحلام بمؤهلات متواضعة له فبدا دميما ومعدما يكاد لا يقوي حتي على المشي أو الاعتماد علي نفسه، .
يغرد عصفور ابو البشير فوق شجرة المسكيت معلنا قرب ظهور شخص ما، فتقول سعيدة الرمالية التي تمسح الرمال الصفراء امامها قبل ان تلقي ودعاتها: هناك (رجل يقترب). ثم تصف من هيئة قطع الودع المنظر الذي تراه: منظر قطع الودع المتناثر في نصف دائرة، هو مشهد الرجال الذين يحضرون ابرام عقد الزواج. العروس في الداخل مثقلة بالذهب(المشدق).أمونة كانت تستمع لها كل مرة بحزن، تعرف ان سعيدة الرمالية لم تكن تكذب، لكنها لم تكن تقرأ المستقبل، بل كانت تقرأ أفكارها. كل مرة مع مقدم الصيف وظهور سعيدة الرمالية كانت امونة تجري اختبارا صغيرا لتتأكد من صدق فرضيتها. تضع صورة فارس أحلامها في واجهة الذاكرة لتكمل سعيدة الرمالية وصف ادق تفاصيل وجهه علي قطع الودع.
حتي الصيف الذي وصفت فيه سعيدة الرمالية شخصا آخر. كانت هيئة فارس أحلام أمونة شخصا متعجلا غامض التفاصيل مشتبكا في مشادة دائمة مع كل الاشياء من حوله حتي أنه حين عمل سائقا لفترة من الزمان طرد من وظيفته بسبب ادمانه للشجار مع سائقي عربات التاكسي وعربات النقل والعربات الخاصة والدراجات بل أنه كان يتشاجر حتي مع اشارات المرور التي كان علي ثقة من انها كانت تتحول للضوء الاحمر فقط لأن دوره جاء ليعبر. طويل القامة، لم يشرب الخمر ولا حتي من اجل التسلية. لكن سعيدة رأته في صورة مغايرة: قصير القامة، خطواته قصيرة، حقق مع العالم من حوله تصالحا دائما ليس فقط بسبب شخصيته المحبة للعزلة ولكن لأنه لم يكن يرغب فى رؤية شئ أبعد من أحلامه الليلية.
لاحظت سعيدة: سيأتي بعد ان تقطعت به السبل. لم تهتم أمونة للملاحظة غير المهمة حاولت اخفاء آثار شعورها المبهم بالذنب كلما تحدث شخص ما عن موضوع زواجها. وذهبت لاحضار الحطب لتعد القهوة لسعيدة الرمالية. حين فتحت الباب وجدت عبد النعيم واقفا بقامته القصيرة وعيونه الحمراء من اثار الخمر. كان يبدو مترددا لم يطرق الباب رغم وقوفه لبعض الوقت هناك ويبدو انه كان علي وشك العودة من حيث أتي لو لم تفتح أمونة الباب فجأة. سلم عليها بارتباك وسأل ان كان شقيقها الطيب موجودا، اشارت له ليدخل وذهبت تنادي علي الطيب الذي كان مشغولا بعمل زريبة جديدة للبهائم شرق البيت. وواصلت طريقها لاحضار الحطب. عادت بعد قليل تحمل حزمة من الحطب وضعتها أرضا في المطبخ وشرعت في اعداد القهوة.
قال شقيقها الطيب الذي جاء ليحمل القهوة للضيف : سيكون عقد الزواج يوم الخميس.
لم ترد أمونة، لكنها شعرت بخوف غامض من الحياة الجديدة التي ستبدأ. شعرت بالحنين لتفاصيل الحياة التي ستفتقد، وان هذا الزواج الذي سيحميها فقط من الشعور بالذنب تجاه الاخرين سيسلبها حريتها. همست لها امها وهي تودعها لحظة الخروج: امه حاجة مك الدار امرأة صعبة جدا (طولي بالك معاها). خرجت يحمل زوجها متاعها القليل يتبعهم شقيقها الذي حمل بقية متاعها وماعز اللبن.
مضت الايام الاولي في هدوء رغم ان أمه بادرتها منذ اللحظة الاولي بعداء صامت دون هوادة. طوال اليوم كانت أمونة تعمل في البيت او رعي البهائم. تذهب للغابة القريبة لاحضار الحطب وتعد الطعام وتغسل ملابس زوجها وملابس والدته وتكنس الفناء الواسع يوميا. وتواجه كراهية أم زوجها بصبر.كانت تكتشف كل يوم حين تعود من الرعي ان العجوز خربت أحواض زهور نبات صباح الخير التي زرعتها في الفناء ورغم ذلك لا تجرؤ امونة علي سؤالها، وسمعتها يوما تقول له : (باين عليك متزوج ليك مرة عاقر. كم مرة قلت ليك عرس ليك بت صغيرة ما سمعت الكلام.)
في ذلك اليوم تحديدا جاء ليلا سكرانا، كانت امونة نائمة مساء حين ايقظها بغلظة لتعد له العشاء. لم تجد امونة شيئا تعده له فأعدت له خبز السناسن باللبن الرايب والسكر. حين احضرت له الاكل كان نائما، ايقظته فهب واقفا ثم سقط ارضا قبل ان ينهض بعد قليل ويشمر يديه محاولا ان يأكل اكتشف بسرعة ان العشاء باللبن، دلق الاكل ارضا واستجمع قوته ليقترب من أمونة ويصفعها.
ضربها حتي تعب وسقط ارضا فساعدته ليصل الي فراشه. في اليوم التالي كان لا يزال سكرانا فواصل ضربها، بدت والدته وكأن ما يحدث أمامها لا يعنيها. كانت جالسة في الراكوبة وسط البيت علي عنقريب صغير وسط ازيار الماء، وبدت بثوبها الاحمر ووجهها الذي غطت التجاعيد علي (شلوخه) مثل حيوان بحري منقرض خلّفه طوفان أغرق العالم..
جاء الطيب في المساء بعد ان سمع ان شقيقته تتعرض للضرب من زوجها، جاء يسحب عربة كارو بحماره وامام انظار الزوج وامه ساعد اخته لتحمل متاعها القليل لتذهب معه. كان عبد النعيم قد واصل الشراب طوال النهار ولحظة خروج زوجته كان جالسا فوق الجدار يغني لها بصوت يشبه نهيق حمار::
يا غريب يلا يلا لي بلدك..!
وسوق معاك .. وقبل ان يقول ولدك تذكر كلام أمه فقال : (وولد ذاتو تسوقو ما عندك)!
غادرت امونة وشقيقها في ضوء القمر يتبعهما الصوت الكارثي: يا غريب يلا يلا لي بلدك.
عادت الي بلدها. واستأنفت حياتها من لحظة توقفها، لم تسألها امها عما حدث ولم يقل شقيقها شيئا. بعد ثلاثة ايام جاء عبد النعيم. كان قد استعاد هدوءه وزال احمرار عيونه، جاء مصطحبا شيخ علي رئيس اللجنة الشعبية. قال شيخ علي للطيب: الزول دة غلط وجايي يصلح الغلط ومعليش السكران في ذمة الواعي، هسع هو وعد يبطل الشراب. لم يعلق الطيب، احضر لهما القهوة ثم عاد الي اخته وقال: يريد عبد النعيم ان ترجعي معه الي البيت، هل توافقين؟
فكرت أمونة قليلا ووافقت باشارة من رأسها.
لاحظت أن كراهية ام زوجها ازدادت في مقابل هدوء زوجها.مرة قذفت بصحن الاكل الي الارض لأن الملح كان ناقصا قليلا.ورغم انها لم تكن تتحرك من مكانها في الراكوبة طوال اليوم لكن امونة كانت تشعر بها موجودة بريح كراهيتها في كل مكان في البيت. حتي انها فكرت انه لن يريحها من هذه العجوز سوي الموت. وجدت الحل السريع : صبغة الشعر. قررت ان تضع للعجوز قليلا من الصبغة في عصيدة الحلبة التي تحب العجوز شرابها مع اللبن والسمن البلدي صباحا.
قالت لزوجها الذي اعتدل مزاجه بعد ان توقف مؤقتا عن الشراب: اريد الذهاب الي السوق لشراء بعض الاشياء، اعطاها بعض النقود، وطلب منها الا تنسى ارتداء نقاب يغطي جسمها كله عند ذهابها للسوق، حتي لا تتعرض لمضايقات رجال الشرطة الشعبية الذين يراقبون ملابس النساء.
اشترت امونة من تاجر متجول صبغة للشعر، واشترت علبة حناء واشترت قليلا من العطور الهندية الغالية التي تباع بالوزن. واشترت لنفسها ولوالدة زوجها أحذية خفيفة تصلح لحرارة الجو رغم تحذيرات زوجها بعدم استخدام الأحذية الخفيفة بسبب وجود عقارب في الفناء.
بعد شراء كل مستلزماتها جاءت امونة لتنتظر الحافلة التي تنطلق بعد إنتهاء السوق، جلست وسط مجموعة من النسوة الجالسات ايضا في انتظار حافلة المواصلات، ولأنها كانت ترتدي النقاب فإن اي من النسوة لم تتعرف عليها ولم يتحدث معها احد. بعد قليل لاحظت حركة غريبة من حولها، جاء احد رجال الشرطة الشعبية وبقي يحدق فيها. وسأل النسوة ان كن يعرفنها فاجبن بالنفي، فقال الرجل بصوت جذب كل الفضوليين في السوق: شكلها يبدو مثل رجل، يظهر انه رجل متنكر يريد ان يجلس وسط النساء!
طلب منها الشرطي ان تذهب معهم الي نقطة الشرطة للكشف عليها، تجمع الناس وزفوها الي نقطة الشرطة ، ادخلت الي غرفة صغيرة داخل النقطة المتهدمة وتولت امرأة رفع الثو ب عنها. دفعت المرأة يدها في صدر أمونة فعثرت علي بقايا ثدي جاف، صرخت بهلع : انها امرأة! خرجت أمونة في حالة فقدان وعي لم تلتفت ولا حتي للشرطي الذي ناداها لتحمل النقاب الذي تركته في مركز الشرطة ولا لجمهرة الناس في الخارج او همس إحدى النسوة الشامتات : يا لحظها! لقد أصبحت رجلا بقرار من الحكومة!
لم تنتبه حتي الي انها تركت حاجياتها في مكان ما وتركت معها صبغة الانقاذ.مضت بخطوات عسكرية دون ان تكترث حتي لفلول الناس الهاربة من امامها اثر هجوم رجال الجيش علي السوق بحثا عن شبان لإارسالهم الي الحرب، ولا حزن الارامل الجالسات علي الطرقات في انتظار شخص ما أضعن تفاصيل وجهه في عتمة الذاكرة . [email protected]
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة