والناظر جاء ... وتلا قائمة الأسماء أشار لأفخرنا جسدا أن كن ألفا فكان الألفا .. أتذكره إن جلس فمجلسه أوسع وإن قام فقامته أرفع وإن فهم فأطولنا إصبع لذا فينا كان الألفا كم كان كثيرا لا يفهم لكن الناظر لا يرحم من منا خطأه الألفا كنا نهديه قطع العملة والحلوى لتقربنا منه زلفى هذا مقطع من قصيدة للشاعر المعلم محي الدين الفاتح المعبرة بدرجة ما ـ ربما كبيرة ـ عن واقع المدارس في بلادنا ـ ربما منذ نشأتها ـ حيث لم تكن هنالك طريقة لاختيار الألفا وإنما هو التعيين الذي يتم بواسطة الناظر ، أو مرشد الفصل . وقد اختار الناظر الألفا بعد تلاوة الأسماء حتى يتعرف على أحجام تلاميذه فقد كان يبحث عن ألفا مفتول العضلات ليستمد الشجاعة من قوته البدنية ، ويتجرأ على كتابة أسماء المهرجلين ولا يخشى عليه من الاعتداء خارج المدرسة ، وهو اعتداء متوقع لرد مظلمة أو حتى لمجرد الاعتداء خاصة في مرحلة المراهقة التي تبدأ من الصف السابع (مرحلة المراهقة المبكرة 12 ـ 15 سنة) . ويبدو أن الناظر نجح في مهمته فقد اختار ألفا فاخر الجسم ، فارع القامة ، طويل اليدين ، ولسوء حظ التلاميذ تصادف أنه كان سيئ الفهم ، والدليل على نجاح الناظر في مهمته أنّ التلاميذ والطلاب اعتمدوا أسلوب الرشاوى (كنا نهديه قطع العملة والحلوى لتقربنا منه زلفى) إذ أن الاعتداء خارج المدرسة أصبح صعب المنال من ألفا قوي البنية . وتذهب قائمة المهرجلين إلى المعلم الذي يذيق التلاميذ الأمرين بسوط العنج أو الخرطوش الأسود الذي يسرقه الطلاب ـ في بعض الأحايين ـ ليتخلصوا من رمز ذلهم وتعذيبهم . وقد تشكلت قيمة راسخة بين التلاميذ والطلاب أن أستر زميلك مهما فعل ، خرّب ممتلكات المدرسة ، أو أشاع الفوضى داخل الفصل ، ومن يبلّغ عنه فهو "سوّاط" وهناك كلمة أسوأ تستخدم في هذا المقام ، و"السوّاط" منبوذ من التلاميذ والطلاب . وظلّت المدرسة في معظم الأحوال مكانا فقيرا طاردا ، ويفرح التلاميذ فرحا غامرا حينما يُطلق سراحهم في نهاية اليوم ـ خاصة إن كان قبل زمن نهاية الحصص ـ فيهتفون من جمال المفاجأة بصوت واحد "البيوت البيوت" . وذات المشهد يتم استنساخه مستقبلا في مكان العمل بصورة أو بأخرى حيث يجتمع قهر المدير على مرؤوسيه الذين يقابلونه بما أضحى يعرف ب"كسير التلج" . ولا شك أن هنالك الكثير من المعلمين المجيدين الذين حببوا المدارس إلى تلاميذهم بإخلاصهم وحكمتهم في بيئة تسوء باطراد مع مرور الزمن . ومن ناحية أخرى تصاعدت في السنوات الأخيرة الدعوة لمنع عقوبة الجلد في المدارس ، وبعد صدور قانون الطفل لسنة 2010 ، والذي عرّف الطفل بأنه كل شخص لم يتجاوز سن الثامنة عشر ، ونصت المادة 29 من القانون على عدم جواز توقيع العقوبات القاسية والتوبيخ بالألفاظ المهينة للكرامة على الأطفال بالمدارس ـ ثم أصدرت وزارة التربية والتعليم بولاية الخرطوم لائحة تمنع الضرب بالمدارس ، ولم تلتزم الكثير من المدارس بلائحة إلغاء عقوبة الجلد . مؤخرا قالت وزارة التربية والتعليم أن إشكالات كبيرة حدثت بعد إصدارها للائحة وذكرت أن هذه اللائحة جعلت بعض التلاميذ يتطاولون على المعلمين ، وأشارت إلى استغلال بعض الأسر لقانون الأسرة والطفل ضد المعلمين الذين يعاقبون أبناءهم ، مؤكدة مراجعتها لهذه اللائحة لإحداث التوازن المطلوب منعاً لحدوث رد فعل معاكس من التلاميذ وأسرهم نحو المعلمين . (نشر بعدد من الصحف والمواقع الالكترونية 18/11/2014) تميل كفة الميزان باستمرار لصالح إلغاء عقوبة الجلد ـ رغم الاضطراب الحاصل ـ ويواكب ذلك حدوث تزايد مضطرد لانتشار المخدرات في المدارس وتفشي العديد من الظواهر السالبة ، وليس بالضرورة وجود علاقة بين المتغيرين ، مما جعل المشهد كله قاتما ومرتبكا لأسباب متعددة ومتداخلة ومعقدة . لعل إحدى أهم إشكالات التعليم في السودان هي ضعف إشراك أهم عناصر العملية التعليمية التعلمية ـ ألا وهو التلميذ ـ فيها ، وتركيز النقاش على إصلاح العناصر الأخرى : المعلم ، والمنهج ، والمدرسة . وظل التعامل مع التلميذ في معظم الأوقات كمفعول به وليس كفاعل ، وقد آن الأوان لتصحيح هذا الوضع ، رغم أن الأمر برمته يحتاج إلى تغيير جذري . تقترح هذه الورقة فكرة اختيار الألفا بطريقة ديمقراطية داخل الفصل بمعنى أنه في بداية العام الدراسي ينعقد اجتماع لطلاب الفصل بحضور مدير المدرسة ومرشد الفصل لاختيار لجنة الفصل والألفا ، ويقوم مرشد الفصل بتلاوة مهام الألفا الذي يمثل حلقة وصل بين تلاميذ الفصل والمعلمين ، وتتمثل هذه المهام في : توصيل معاناة ومشاكل التلاميذ إلى مرشد الفصل ، التنبيه إلى التلاميذ الخلاقين الذين يبدعون ويبادرون بفعل أنشطة إيجابية بالفصل أو المدرسة ، رصد التلاميذ المشاغبين الذين يتسببون في الإضرار بزملائهم ، جمع الكراسات وإرجاعها ، الإشراف على النشاط الاجتماعي والثقافي . في الإطار الاجتماعي والثقافي يقوم الألفا ولجنة الفصل بالتعاون مع مرشد الفصل وإدارة المدرسة بمناقشة القضايا المهمة مع التلاميذ ، رأي التلاميذ وبالتلاميذ وللتلاميذ ، وبإشراف مرشد الفصل ، كمشكلة تعاطي المخدرات حجم انتشارها ومدى خطرها وكيفية تفاديها والعلاج منها ، ومثل مشكلة العنصرية وتعيير بعض الطلاب للبعض الآخر بقبائلهم وتحقير لغاتهم ، ومشكلة إتلاف بعض التلاميذ لممتلكات المدرسة/الملكية العامة ، ومشكلة التحرش وغيرها ، على أن يتم التعامل مع المشاكل بأسلوب مبسط يتناسب مع الفئة العمرية للتلاميذ . ويشرف الألفا على البرامج الاجتماعية كتسجيل زيارة لتلميذ مريض وتقديم مساعدة من الفصل بجمع مساهمات من التلاميذ . ويمكن للتلاميذ أن يضيفوا ويعدلوا في المهام المذكورة أعلاه ، ثم تبدأ عملية الترشيح لاختيار الألفا بإشراف مرشد الفصل في السنوات الصغرى ـ ولجنة من الطلاب في السنوات العليا ـ ويطلب مرشد الفصل من كل تلميذ أن يسرد أسباب ترشيحه للتلميذ المحدد ، وتتم كتابة أسماء المرشحين على السبورة ، وينفتح باب الانسحاب والطعون ، ويعمل مرشد الفصل على توجيه النقاش بحيث يكون موضوعيا ومثمرا ، ويعمل على تقليل حدة التنافس إن بدا ما يشير إلى ذلك . ومن ثم يتم إجراء عملية الاقتراع السري باستخدام أوراق مختومة بختم المدرسة بوجود مراقبة من التلاميذ ، وتنتهي العملية بإجراء الفرز لتحديد الألفا الفائز ولجنة الفصل . ويتم نقد الألفا مباشرة في النقاش أثناء الفسحة ، كما يمكن نقده في الصحيفة الحائطية التي يصدرها الفصل ، ويمكن تقديم شكوى ضد الألفا لمرشد الفصل . وبنهاية الفترة الأولى ينعقد اجتماع الجمعية العمومية للفصل لمحاسبة الألفا ولجنة الفصل وتحديد النقاط الإيجابية وأوجه القصور وتقديم توصيات للألفا واللجنة القادمة ، ويبدأ الألفا بتقديم خطاب يشمل إنجازاتهم وإخفاقاتهم والصعوبات التي واجهتهم ويمارس النقد الذاتي والاعتراف بالأخطاء ويتضمن خطابه سردا تفصيليا للجانب المالي إيرادا وصرفا ويكون خطاب الميزانية منفصلا في السنوات العليا ، ومن الناحية الثانية يقر له التلاميذ بإنجازاته ويقدمون نقدا بناءً يقترح الحلول للمشاكل ، ويكون الخطاب شفهيا في الحلقة الأولى (أول وثاني وثالث) ومكتوبا في الحلقة الثانية (رابع وخامس وسادس) والثالثة (سابع وثامن وتاسع/المرحلة المتوسطة) والمرحلة الثانوية ، ومن ثم يتم انتخاب الألفا الجديد واللجنة الجديدة للنصف الثاني من العام الدراسي . ينعقد اجتماع الجمعية العمومية/الفصل ثلاث مرات في العام الدراسي ، في بداية العام يتم اختيار الألفا ولجنة الفصل ، لتتم محاسبتهم في اجتماع الجمعية العمومية الثاني بنهاية الفترة الأولى واختيار الألفا الجديد واللجنة الجديدة ، لتتم محاسبتهم في اجتماع الجمعية العمومية الثالث في نهاية العام الدراسي ولا يتم اختيار ألفا . وتقوم إدارة المدرسة بتكريم أحسن الفصول ممارسة للديمقراطية والألفا الديمقراطي . إنّ انعقاد الجمعية العمومية للفصل ثلاث مرات في العام على مدى سنوات مرحلة الأساس (ستكون 9 سنوات) والمرحلة الثانوية يمكّن التلميذ من المشاركة في 36 جمعية عمومية قبل التحاقه بالجامعة ، هذا بخلاف مشاركته في الجمعيات العمومية للاتحادات والروابط العلمية والثقافية والفنية ، مما يؤهله ليكون مواطنا ديمقراطيا يقدم النقد البناء ويتسم بالموضوعية والشفافية . من المؤكد أن تعليما ديمقراطيا كهذا لن يكون بمقدرتنا تنفيذه في ظل تعليم لم يحفل بالديمقراطية كما ينبغي . كانت الإدارة البريطانية (1898-1956) قد حصرت أهداف التعليم في إعداد طبقة من السودانيين تعينهم على حكم البلاد ، ولم تكن "الديمقراطية" بطبيعة الحال من تلك الأهداف . وظهرت مفردة "ديمقراطية" للمرة الأولى في الأهداف التي صاغتها اللجنة التي تم تكوينها في عام 1956 والتي رأت ضرورة التعليم لتحقيق ثلاث غايات هامة أولها (تنمية الأخلاق والروح الاجتماعي بطريقة تُمَكِّن الشباب من القيام بالواجبات التي تتطلبها الحياة "الديمقراطية")[عثمان حسن أحمد ، أهداف التربية السودانية ، مجلة حروف ، دار جامعة الخرطوم للنشر ، العدد الأول ، سبتمبر 1990م] . في عام 1958م حددت لجنة التربويين السودانيين فلسفة التربية في السودان ولم يرد مصطلح ديمقراطية . وقد رُوجعت تلك الأهداف – في عام 1961 – وواصلت "الديمقراطية" الغياب . ثم عادت مفردة "الديمقراطية" في عام 1968 -الديمقراطية الثانية – تضمنت الاعتبارات التربوية في الفقرة الرابعة والأخيرة (إعداد فرد مؤمن بالحرية والمساواة عامل علي تحقيق الحياة "الديمقراطية" والعدالة الاجتماعية) [عثمان حسن أحمد ، المصدر السابق] . وفي أكتوبر 1969 - بداية فترة نظام مايو - انعقد المؤتمر القومي للتربية وخرج المؤتمر بجملة أهداف نص الهدف الثالث على (إنَّ الاستفادة من هذا التعليم لا تكتمل إلا إذا توفرت فيه "ديمقراطية" تجعله في متناول الجميع) [عثمان حسن أحمد ، نفسه] . وقد أعطى النظام المايوي للديمقراطية معنى توفير التعليم للجميع وهو معنى مطلوب لكن يجب ألا يلغي الديمقراطية . وفي عام 1975م صدر تقرير شامل تضمن إستراتيجية التعليم وكانت أهداف التربية من ضمن ما اهتم به حيث غابت الديمقراطية مرة أخرى . وصاغ مؤتمر المناهج التعليمية ـ الذي انعقد في نوفمبر 1984م ـ أهدافاً تربويةً أخري غابت عنها الديمقراطية ولكن ظهرت مفردة "الشورى" في ظل الشعارات الإسلامية التي رفعها نظام نميري عاليا . أما نظام الإنقاذ الحالي فلم تشتمل أهداف تعليمه الستة ـ التي صيغت في مؤتمر سياسات التربية والتعليم عام 1990م ـ على مفردة "ديمقراطية" بل ولا حتى على مفردة "شورى"! . إن مشكلة الديمقراطية هي مشكلة ملازمة لنشأة الدولة السودانية ماثلة منذ الاستقلال إذ أن الديمقراطية التي تمت ممارساتها كانت شكلية فوقية ، ولم نعمل على استنباتها كما ينبغي وأعاقت الأنظمة العسكرية التي تتالت بناءها . إن استنبات الديمقراطية يحتاج إلى أن تشتمل أهداف التعليم على معاني مثل "بناء الديمقراطية" و"ترسيخ المواطنة" و"احترام التنوع الثقافي" ويكون الدين رافدا لتأكيد هذه الأهداف وليس سببا لإلغائها ، عندها من الممكن لتصور (ديمقراطية الفصل واختيار الألفا) أن يكون جزءا لا يتجزأ من المنهج الدراسي ، ويتضمن تدريب المعلمين التدريب على الديمقراطية . لا تتم التربية على الديمقراطية بالتعليم وحده بل تكتسب الديمقراطية بالممارسة العملية منذ الصغر ، للأسرة دور كبير في غرس قيم الديمقراطية بطريقة تعامل الوالدين/القدوة فيما بينهما ، وبإشراكهما للطفل في اتخاذ القرارات المتعلقة بالبيت/الوطن الأصغر ، لا سيما اتخاذ القرارات المتعلقة بالطفل نفسه مثل اختيار ملابسه حيث يمكن إسداء النصح للطفل وليس إصدار الأوامر وإتاحة الفرصة له لتحمل المسئولية والتعلم عن طريق التجربة والخطأ ، ولكن افتقار الأبوين للتربية الديمقراطية يحول دون إكسابها لصغارهما . ولمنظمات المجتمع المدني دور مهم في بناء الديمقراطية بممارسة عضويتها لها ومن ثم نشر الديمقراطية في محيطها ، ولكن معظم هذه المنظمات يعتورها الضعف الديمقراطي فهي لا تعقد جمعياتها العمومية ولا تجد من يستنكر ذلك حتى من عضويتها . وللإعلام دوره خاصة المرئي والمسموع ـ في بلد لا تزال فيه نسبة الأمية عالية ـ الذي يصل إلى الأسر مباشرة ، وسيفيد أيما فائدة إذا أحسن توظيفه . ولكن يتوقع أن يكون للتعليم الدور الأكبر في بناء الديمقراطية ، فهو أبقى أثرا من الإعلام ، ويمكن التحكم فيه ـ عن طريق المعلمين ـ أكثر من الأسرة في حال توفر نظام سياسي ديمقراطي ، وأكثر تأثيرا من منظمات المجتمع المدني في العهد الديمقراطي . إن تضافر هذه العوامل مع بعضها البعض سيؤدي إلى بناء المجتمع الديمقراطي ، وربما في غضون 25 عاما يكون من الممكن وصف مجتمعنا بأنه مجتمع ديمقراطي . ولكن عملية استنبات الديمقراطية يجب ألا تنتظر إلى أن يتم تغيير النظام الحالي ، وإنما تبدأ بقوة هنا والآن ، مواصلة لجهود سبقت وإن قلت ، وعلى جميع الصعد ، أمّا على صعيد التعليم فنهدي المعلمين مقترح "ديمقراطية الفصل واختيار الألفا" ، ويمكن للمعلمين/ت الديمقراطيين/ت ـ الآن ـ وبمبادرات فردية منهم/هن تطبيقها في مدارسهم/هن . انتهى تم تقديم هذه الورقة في فعالية لمنتدى شروق الثقافي بتاريخ 20/6/2015
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة