لطالما ظلت مسألة و قضية الشرعية أشد ما تؤرق الجنرال البشير ونظام حكمه طوال سنين الخراب الممتدة منذ الانقلاب في يونيو 1989 وحتى اللحظة،فمنذ مقولته الشهيرة "الحرامي في رأسه ريشة " ظل يضع رهانه على تطوير التوقعات للتشويش على هذه الصورة ،فتوقعات التحول والتغيير ،وجعل الجميع يشتركون في إقتسام توقعات يتحكم هو في تحديدها ، فتبعات التوقعات الحقيقية يعجزالنظام بحكم بنيته الداخلية عن الاستجابة لها ،فلا سبيل لتوقع سلام حقيقي وتعايش سلمي ونظامه يقوم على الحرب والتدمير لحد الإبادة ،ولامجال لتوقع الرفاه الاقتصادي ونظامه يقوم على التخريب وتمكين الطبقة الحاكمة عن طريق افقار الريف وتدمير قطاعاته الاقتصادية وهوأساسا نموزج للطفيلية في الأقتصاد ،ولاسبيل لحكم القانون وإحترام الحقوق الأساسية للمواطن وسلطته قائمة على العسف والقمع والفساد..الخ ،وقياساً على ذلك لا يعدو مفهوم حوار ووفاق أكثر من مفردات تعبئة سياسية من إنتاج النظام ،وليس لانتاج نظام جديد ،فيُعقد حينئذ مؤتمر للحوار وكأنه حوار نوستالجي يناجي فيها نفسه ،ومتخيل آخر يوقع معه إلتزامات تصبح مجرد توقعات لاتجد مكانها في الواقع غايتها زر الرماد في العيون،ويفتح الباب أمام المغالطة والتدليس والحشو الكلامي الفارغ ،فقد عقد النظام في بواكير عهده المؤتمر الوطني للحوار والسلام 9سبتمبر -10 اكتوبر1989، وأعيد نصب ذات المنصة في 3ديسمبر2014 بمايعرف بالوثبة والذي أظهر البشير كمخادع يتلاعب بالالفاظ والتراكيب التعبيرية الغريبة ،اخذت حظها من التندر،وأغرق الأراء في تفاصيل عجيبة حول من كتب خطاب الرئيس وماالي ذلك ،وها قد رفُعت الانصاب في 10-اكتوبر-2016 من العام الجاري،وأغرق أيضاً الرأي العام في تكهنات ورهانات أبهمت أكثر مما أبانت ،ومن واقع الجمود الذي يغلف الواقع نستطيع أن نقول أنها آخر فرصة للتلاعب بالتوقعات ،فالتوقعات التي أكد الجنرال البشير من خلالها مقدرته على ممارسة الخداع والتلاعب بالادراك العام وبقصد كسب مذيد من الوقت ،ماعادت تجدي نفعاً ،فحينما تفشل العملية السياسية في تقديم مفهوم للحوار بوصفه فعل جاد لايحتمل التلاعب ،حينها لا أحد يمكنه أن يبني توقعات جدية في سبيل الحل ،ولا مناص من توقع الأسوأ والأسوأ جداً. فالحوارالذي يمثل أعلي سقف للمعارضة كخيار موضوعي وعقلاني كان يمكن من خلاله أن تخرق الإطار الغير شرعي واللاعقلاني الذي يقوم عليه النظام ،ولكن أصبح اليوم غير صالح بعد إختطاف السلطة له وإستغلاله في المناورة السياسية لينتهي الى ما انتهى اليه اليوم من التلف التام ،ولا أعتقد أن المعارضة بوصفها الطرف الآخر في الجمود السياسي لديها القدرة والجدية لاقتراح مسار حوار بديل تجبر السلطة القائمة الي السير في اتجاه التغيير او الاصلاح ،وهي تعلم أن أسهل مدخل لاجبار السلطة الى التواضع على اهمية الحوار وفرصته للمساومة هي من خلال قضية سجال الشرعية ،فالحوار في نهاياته وأقصى مايجب أن تحققه هو أن تؤسس لشرعية الاعتراف المتبادل ،وإقرار وضع يستند على القانون والتشريع الحي ،وان السلطة والحكم بمنطق الأمر الواقع لا مكان له في عالم اليوم ،وكان يمكن ان تتحصل على الشرعية بالفاعلية ولكنها ليست قائمة على ذلك .فأزمة شرعية السلطة هي واحدة من الحقائق التي ظلت المعارضة عاجزة تماماً عن خوض معركتها مع السلطة حولها ،فبعد إنفصال جنوب السودان ،افتقدت السلطة شرعيتها من جانبين ،جانب الفاعلية ،وهو المتعلق باساءة السياسة للدرجة التي عجزت عن الحفاظ على السيادة ووحدة البلاد ،الى جانب وقائع الحالة السودانية من إستشراء الفساد والخراب المنتشر من خلال الواقع الاقتصادي المزري وإنتشار الفقر بمستويات خطيرة تنزر بكارثة تحيق بالجميع وماالي ذلك من أشكال الاخفاق التي لا يوجد لها مثيل جعل من إسم السودان دائما مقروناً بالدول الفاشلة ،والجانب الآخرلافتقاد الشرعية وهو متعلق بانتهاء أجل العهد الدستوري الذي يعتبر العقد الوحيد الذي أصبغ الشرعية للنظام بفعل اتفاق السلام الشامل لايقاف الحرب في جنوب السودان بالدستور الانتقالي لعام 2005،والذي حصل على إجماع داخلي واقليمي ودولي منقطع النظير ،ولكن بعد الانفصال ،اصبح الوضع السياسي في البلاد واضحاً ،وهي أن القضية الدستورية والتحول الديمقراطي هي موضوعة السجال السياسي في الواقع الجديد ،ولادراك النظام لحلقة السجال الدستوري التي ستحاصره لجأ مبكراً الي توسيع دائرة الدكتاتورية وسيطرة الفاشية الاسلاموية ، فالقضية التي سيواجهها في جبهة السجال الدستوري لاقِبل له بها ،لذلك عمد مبكراً الي إحراق آخر اوراق اتفاق السلام الشامل ،وهي القضايا العالقة ،وحينئذ أعاد اشعال الحرب في جنوب كردفان والنيل الأزرق ،لفرض واقع الحرب ،وبالتالي أعاد عقارب ساعة الصراع على السلطة الى الوراء ،حيث ضبط التوقيت على شرعية العمل المسلح ومحاربة التمرد ،وحيث لا صوت يعلو فوق صوت المعركة ،والضجيج العالي الذي وسمت مسيرة الدكتاتورية طوال" ال27عاماً الحالية " ،وأثناء هذا الضجيج الذي يتحكم في تعلية وخفض وتيرته تم عقد الانتخابات وهو يدرك حقيقة الوضع المعيب دستورياً ،وحينما أخفق فعلياً في حشد الدعم الدولي والمحلي وأكد عجزه في استيفاء المعايير المعقولة ،وأنكشفت بالتالي المسرحية بمقاطعة شعبية محتقنة وناقمة في العاصمة الخرطوم بعد أحداث سبتمبر الدامية ،حيث قتل مالا يقل عن 200 شاب ،سارعت المخابرات الي إثارة غبار كثيف أثناء فترة الانتخابات بغرض التغطية والتمويه ،وذلك من خلال معركة "قوز دنقو الشهيرة " في دارفور مع حركة العدل والمساواة والتي برز الرئيس البشير فجأة من خلال غبارها وسط جحافل المليشيات وبذلك أسدل الستار علي مشهد الانتخابات وسيطر على الحياة العامة قصة الحرب بتأكيد الشرعية العسكرية،لذلك فالشرعية القائمة حالياً هي أحق أن تسمى بشرعية قوز دنقو 2015 . السرد التحليلي البسيط لمسيرة السلطة الحاكمة وآليات عملها ،ومجال دوران حركة السياسة داخلها ،توضح أن الشرعية لا تعني أكثر من الهيمنة ،بعكس الشرعية فالشرعية بوصفها الطريقة والكيفية للوصول الي السلطة وممارستها ،تحددان الي أي مدي أن نظام الحكم صالح باركانه وقاعدته الأساسية ،وهي تتحدد بثلاثة مبادئ أساسية وهي :الشرعية المستمدة من قوة القانون وليس قانون القوة .والسلطة المستندة على القانون لا على العنف . والسيادة . فالشرعية مركبة وعلي جانب من التعقيد تتحدد بالفاعلية ،وتتحدد الشرعية أيضاً بممارسة السلطة وكيفية ممارستها ،والوصول اليها تقليديا بالشرعية الشعبية أو الشرعية التي تكون مصدرها سلطة الشعب وهو النموزج الذي يسود في عالم اليوم ،وللمفارقة في الوقت الذي ظلت فيه سلطة البشير تبحث عن شرعية الاعتراف بخلق التوقعات من خلال اعتياد إدارة المسألة السياسية بطريقة التعبئة الشاملة تحت لافتات الوفاق الوطني والحوار الوطني ، المفارقة حتى لاننسي تتمثل في ان الحكومة التي اطاح بها بغض النظر عن علاتها كانت تسمي حكومة الوفاق الوطني ،والتي حظي فيها عراب الانقلاب وحزبه الجبهة الاسلامية القومية في ذلك الوقت بفرص جيدة ،وظلت السلطة تدور في محور تطوير التوقعات وبناء توقعات جديدة في عقول الأفراد وهي طريقة تجديد الشرعية ليكون رئيساً أكثر من مرة ،فتجديد التوقعات وبنائها تتم من خلال جولات الانتخابات
*لعل أحد اسباب الجمود والحسرة التي تغلف حياتنا ،هي أننا وفي كل منعرج تطفح فيه الي السطح تحركات ودعوات السلام والمصالحة والوفاق الوطني ،نجدها تتزامن بشكل مدهش مع إتساع ثغرات في وضع القوى المعارضة لمشروع الفئات المستفيدة من الحرب ومخططاتها . * *تترافق دائماً مساعي نداءات حكومة الخرطوم عن ضرورة "السلام"والوفاق "مع فشل القوى البديلة في تحقيق وحدة فعالة ومثمرة ونشاط جماهيري ملموس .حتي صار كل مأزق للحكومة مأزقاً للمعارضة .الوحدة الفعالة للقوى السياسية والاجتماعية السودانية هو السبيل الأوحد للتغير .
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة