في هذه الأيام التي أعلنت فيها الحكومة عن إجراءاتها الاقتصادية الجديدة التي اثارت موجة من الرفض في كل الأوساط الشعبية يستعيد السودانيون أحداث الإجراءات الاقتصادية وتداعياتها والتي وقعت في الثالث والعشرين من سبتمبر 2013، احتجاجا على الغلاء الذى طال كافة مناحي الحياة في اعقاب قرار الحكومة برفع الدعم عن المشتقات البترولية، والتي بدأت في مدينة ود مدني بولاية الجزيرة اواسط البلاد، وسرعان ما عمت الاحتجاجات العاصمة السودانية ومدن اخرى. أما اليوم فحديث مساعد الرئيس إبراهيم محمود ينحصر حتى الآن في الدواء المر لذي لابد من أن يتجرعه المواطنون بينما تبقى امتيازات ومخصصات جيش النظام الإداري في المركز والولايات دون مساس . أحداث اليوم الاقتصادية استرجعت شريطا من تصريحات المسؤولين حينذاك وهم يتبارون في الاساءة إلى الشعب السوداني عقب تصريح لنافع على نافع آنذاك قال فيه إنهم عندما جاؤوا للحكم كان السودانيون يتقاسمون (الصابونة)، دلالة على الفقر الشديد ، وحديث نائب الرئيس السابق الحاج آدم الملقب بساطور وقوله أنّ السوداني قبل(الإنقاذ) لم يكن يمتلك (قميصين). ويفسر العلماء المتخصصون في علم النفس مثل هذه التصريحات والسلوكيات بما يسمى مفهوم (الإسقاط في علم النفس) والذي يشير إلى حالة دفاعية ينسب فيها الفرد عيوبه إلى الآخرين حتى يبرئ نفسه . والغريب أن من الطبيعي جدا في معظم دول العالم أن يسخر المواطنون من حكامهم الذين ينتخبونهم بكامل إرادتهم إن رأوا أن هناك ما يستوجب السخرية سيما في البلدان الديمقراطية التي لا تخضع فيها وسائل الإعلام لرقابة الأمن وملاحقة العسس وتتقيد فقط باحترام نصوص القانون . إلا أن الأمر مختلف تماما في السودان حيث أن النظام ليس ديمقراطيا وليس منتخبا بحرية وحيث ان سلطة الأمن تعلو سلطة الدستور والقانون وجوهر الاختلاف وبالتالي فإن الحكام في السودان هم الذين يسخرون ويستهترون بشعبهم متى ما رأى المواطنين رأيا يخالف آرائهم وسياساتهم . فليس الأمر فقط يتعلق بالمواجهة الأمنية التقليدية للمعارضين ملاحقة او اعتقالا او مساءلة على نحو ما يحدث اليوم بل يتعداه إلى الاستهتار المعنوي والسخرية ضد المواطنين من بعض القيادات التي تستغرقها شهوة الحكم وسكرة السلطان . ومن المفارقة ان ما يطلقه بعض المسؤولين من تعليقات وسخرية بحق المواطنين قد يطيح ليس المسؤول فقط بل الحكومة بكاملها في أي بلد ديمقراطي يحترم نفسه وشعبه إلا أن الأمر في السودان يمر مرور الكرام دون أدنى اعتذار من أعلى منصب في الدولة إلى أدنى منصب فيها ودون محاسبة لأن الثقافة الشمولية السائدة هي أن الشعب هو الذي ينبغي أن يخدم الحكومة وليس ان الحكومة هي التي يجب أن تخدم الشعب وأن الحكومة هي التي تسخر من الشعب وليس من حق الشعب أن يسخر من سياسات الحكومة التي تستوجب السخرية .
لذا كان طبيعيا ان يسمع السودانيون دلائل صوتية من قادتهم من وقت لآخر على صحة هذه النظرية .فعندما أعلنت الإجراءات الاقتصادية السابقة في سبتمبر الشهير الذي راح ضحية أحداثه أكثر من مئتين من الشباب خرج الرئيس البشير ليقول قولته الشهيرة في مؤتمر صحافي إنه صاحب الفضل في تعريف السودانيين بوجبة "الهوت دوغ" . وقال إن السودان ليس به ربيع عربي بل به صيف حارق وأنه سيشوى معارضية بنار هذا الصيف . ثم يأتي نافع على نافع ليسير على سنة الرئيس مستخفا بمطالبة بعض القوى بتشكيل حكومة انتقالية، تضمن تمثيلهم في مقاعد الحكم، ويقول " انهم واهمون، وتابع ساخرا "لحس الكوع أقرب لهم من السلطة" وعندما احتج المواطنون على انقطاع الكهرباء والمياه لأيام قال نافع في لقاء بشرق النيل هذا الشعب الذي يدرك أنه ما كان يحلم بكهرباء ، لن يخرج من أجل انقطاعها و أضاف أنتم في شرق النيل كم هي المساحة التي كانت مضاءة قبل هذا الإنقاذ ؟ أنا أجزم أنها لم تتجاوز هذه المساحة التي نقف عليها وعندما تجرأ احد المواطنين محتجا على عدم توفر الجازولين لتشغيل المولدات قال نافع " أنت قبل الانقاذ كان عندك مولد عشان تكب فيه جازولين" . غير ان مصطفى عثمان إسماعيل قرر الذهاب في الاستهتار والسخرية من المواطنين إلى بعد من ذلك حين نقلت عنه قناة الجزيرة وصحيفة الشرق الأوسط قوله إن شعب بلاده كانوا «شحاتين»، قبل تسلم الرئيس عمر البشير مقاليد الحكم . وأضاف مؤكدا " عندما جاءت الإنقاذ إلى السلطة، الشعب السوداني كان مثل الشحاتين لم يكن هناك سكر، الشعب السوداني كان يشرب الشاي بـالجكه" أما وزير الدولة للإعلام ياسر يوسف أبكر فقد نقلت عنه صحيفة (اليوم التالي) تصريحه الذي شتم فيه مقاطعي الانتخابات ووصفهم بانهم "اراذل القوم". وهناك نوع آخر من قادة الإنقاذ من غير المتمكنين لغة من ملكة التعبير الساخر ويعبرون عن سخريتهم بطريقتهم الخاصة محدودة الأفق كالحاج آدم نائب الرئيس السابق الذي قال متهكما ان المواطنين فى بعض المناطق طفقوا يخرجون الى الشارع حال انقطاع الكهرباء لثلاث ساعات، بينما كان التيار الكهربائى ينقطع عنهم لثلاث اشهر وأضاف "هناك من لم يرى الكهرباء منذ ثلاثة قرون. ثم اتى بنظرية جديدة وهي إلغاء مدارس التعليم العام الحكومية ودعا غير المقتدرين على دفع قيمة وتكاليف التعليم ضرورة الذهاب إلى ديوان الزكاة لأخذ الصدقات . غير ان المضحك المبكي عندما طلب من اسرائيل بمنطق الأطفال قائلا " بدلا من ضربنا بالطائرات على إسرائيل ، ضرورة منازلتنا وأن تطلع معنا الخلاء كي تواجهنا لنريها باسنا ". وأخيرا تأتي سخرية أمين حسن عمر من نبأ اعتزام السيد الصادق المهدي العودة إلى السودان لتفعيل قواعد حزبه عندما سالته المحاورة هل تعتزمون إجراء حوار معه وكيف ستقابلونه فأجاب بقوله " يعنى ح نغني ليه طلع البدر علينا " معلوم أن حكومة نظام الإنقاذ في طبعتها الأولى ظلت ترفع الشعار الإسلامي بكل معانيه القيمية كنوع من الدعاية السياسية لحشد الدعم العاطفي وتوظيف الشعارات الإسلامية لخدمة أغراض الانقلاب التمكينية كما فصل ذلك الراحل الدكتور حسن الترابي في اعترافاته لقناة الجزيرة . ومع تكشف حقيقة سياسات النظام للقاصي والداني وتصاعد وتيرة الفساد والفشل السياسي والاقتصادي وتراجع شعبيته تراجع الشعار الإسلامي تدريجيا من أجندة الدعاية الحكومية وذلك لأسباب عديدة منها ماهو متعلق بالصراع داخل منظومة الإنقاذ والذي افضى إلى استبعاد صقور النظام من أمثال على عثمان ونافع على نافع وغيرهم رغم تشبثهم بالسلطة وماهو متعلق بتغيير سياسات النظام الإقليمية تبعا للتحولات في المنطقة وإتقاءا للمزيد من الضغوط الخارجية وإتقاء بأس أميركا والاتجاه لمغازلتها وطلب ودها . ومنها ماهو متعلق بتكريس سلطة الإنقاذ في يد الرئيس ومعاونيه من العسكريين وبعض الإسلاميين البراغماتيين من ذوي المصالح الذين تخلوا عن التزامهم العقائدي الحزبي لصالح الحفاظ على امتيازاتهم المادية والسياسية وتأمين حركتهم بعيدا عن قوائم الملاحقة الدولية. إلا أن هذه المتغيرات لم تشمل للأسف تغير ثقافة معاملة النظام لشعبه بل التمادي في الاستعلاء الحزبي على الآخرين باعتماد منهج القمع والاقصاء والاستخفاف وهو ما سينقلب إن عاجلا أو آجلا على أهله . قال الله تعالى ( ياأيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون ) الحجرات 11.) )
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة