كان الغزو التركي لبلاد السودان في العام 1821، من أهم الأحداث التي تضافرت لإعلان نشأة الدولة القومية على الجذر القبلي.. لك أن تؤمن بحقيقة أن الدولة، غالباً ما تنشأ إثر تفكك أوصال النظام القبلي.. لك أن تؤمن دون تقديس للفكرة، لأن قانون التطور يحيل معارف اليوم إلى أذونات بدائية يتطور منها الوعي إلى حقائق جديدة. إن نشأة الدولة على انقاض القبيلة، هي الصورة الأقرب للواقع، وإن كانت الدول تقوم وتسقط، دون إذن من الزمان ورجاله.. فالتاريخ، الذي نقرأه، والذي نخشاه ونعمل من أجل أن يكتبنا في صحائفه بحروف من نور، يمكن أن ينقلب إلى كائن عبثي، أو كما يقول محمود درويش: (التاريخ يسخرُ من ضحاياه، ومن أبطاله.. يُلقي عليهم نظرة ويمُر)! الشاهد أن الأثر الخارجي – الغزو – على واقع سلطنة الفونج كان تثويراً، أو لقاحاً مهيّجاً، جدد ماء الحياة في نواة الدولة، ممثلة في عاصمتها سنار. تلك الدولة اصطحبت في نشأتها الكثير من تقاليد القبيلة، وقيم الطريقة التى كانت الأيديولوجيا الهادية للسلطنة الزرقاء طيلة ثلاثة قرون، لكون أن الطريقة الصوفية هي الكيان التاريخي المتوالِد، أو المتطور عن القبيلة. خلال تلك الفترة خدم التصوف العفوي غرضه التاريخي حتى استنفذه، حتى أفلسَ ولم يعد يلبي حاجيات الواقع الاجتماعي الجديد. بدأ التعثر في خطى الطليعة الصوفية، فكان القدر ينسج بديلاً يحل محل (أهل الله)، الذين كانوا ممثلي قوى التطور الوطني في تلك الفترة.. حدث الفراغ الذي ملأه الأتراك وجاء الغزو كوحدة قطع خارجية أوقف تلكؤ التطور الوطني وعجزه عن الأخذ بزمام المبادرة. كان التصوف في نهايات السلطنة مجرد انتساب للقداسة، ومحض إعلان لتدين السلطة، بالتالي لم يكن حينها خطاباً مقنعاً لحشد العصبية المطلوبة لتقوية الدولة بالنداء العقدي الفاعل الذي تحتاجه في تلك المرحلة.. ووفق نظرية ابن خلدون، فإن النظام السلطاني ما أن استقر في دولة الفونج حتى بدأ في (الاستغناء عن العصبية القبلية).. أنظر، ابن خلدون، المقدمة: ص156.. لم يكن استغناءاً دون بديل، إذ أطلت الطريقة لتدفع بالقبيلة إلى حتفها.. ثم شاخت الطريقة، وعاد واقع التطور إلى إدانتها، بأنها حال قديم أدمن رواده التحوصل في تعاليم الأسلاف حين سرت فيهم ثقافة القطيع. في نهايات السلطنة، لم يعد كيان الطريقة التقليدي يلبي متطلبات العصر لأن رؤى الأسلاف لا تكون حلاً لقضايا الحاضر والواقع المتجدد. كانت الهوة تتسع باستمرار بين تطلعات الصوفية وواقعهم، بين التعاليم الموروثة وتفجر المعارف مع شروق شمس الثورة الصناعية.. ولقد تدافع ميكانيزم التطور، واحتدم الصراع بين القديم والجديد، فوجد بعض الرواد في الدروشة والإنزواء رضاءهم النفسي، وتشققت الطرق طرقاً تحمل أسماء المشايخ والحيران، حتى ظن كل شيخ أنه يقوم بتأسيس دين جديد، وبدا الصوفية أقزاماً بعد أن كانوا طلائعاً، فكان تمسكهم التقليدي بأيدلوجيا الماضي، تحت أضواء العصر، نوعاً من إدمان الطفولة، والتثبث بالرضاعة من ثدي ضامر، والتغني بمجدٍ غابر... نواصل. akhirlahza
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة