واحدة من إيجابيات حوار وثبة الإنقاذ، إنه فتح جدلا بين المثقفين السودانيين حول أختصاصات جهاز الأمن و المخابرات، و كان الرأى الغالب داخل مؤتمر حوار الوثبة أن تقيد مسؤوليات الجهاز الممنوحة إليه حاليا، و أن تكون مهامه جمع المعلومات و تقديمها للسلطة التنفيذية، كما كانت مقيدة في دستور 2005 الانتقالي، و بعد تقديم وثيقة الحريات للبرلمان، و تشكيل اللجنة الطارئة للنظر في الوثيقة، فتحت اللجنة حولها حوار، بهدف إحداث تغير في الوثيقة، تحقيقا لرغبة قيادات في المؤتمر الوطني، و من يشايعهم من قيادات الأحزاب المصنوعة، في استمرار السلطة الشمولية، بما يسمى بالحزب القائد، هؤلاء إتخذوا من قضية تقليص صلاحيات جهاز الأمن موضوعا لرفض إية رغبة في التحول الديمقراطي. و أيضا دخل في الجدل قيادات من جهاز الأمن و المخابرات، رافضين لأية تغير يحدث في الصلاحيات الممنوحة لجهاز الأمن و المخابرات، و استغلوا احتفالاتهم بمنحهم نجمة الإنجاز من قبل رئيس الجمهورية، حيث تحولت ساحات الاحتفال منابر سياسية قدم فيها قيادات الجهاز رؤيتهم بعدم تقليص هذه الصلاحيات، بل ينادون بمزيد من الصلاحيات. هذا الجدل يدور في الدائرة السياسية في المجتمع، مصحوبا بالثقافة التي رسختها النظم الشمولية ربما تكون متوقعة، و لكن الذي لم يكن متوقعا الجدل الدائر بين مجموعات من المثقفين، خارج دائرة السلطة و المؤسسات السياسية و القمعية. إن الجدل السياسي الدائر بين بعض المثقفين حول دور جهاز الأمن و أختصاصاته، جدل لم يخرج من الثقافة الشمولية التي رسخها عقل البندقية في المجتمع منذ إنقلاب 17 نوفمبر 1958، وظل مستمرا مع سلسلة الانقلابات العسكرية في العهد المايوي، و عهد الإنقاذ الذي أختلط بالأيديولوجية. و معروف في كل النظم الشمولية علي مختلف تياراتها و مرجعياتها الفكرية، هي نظم تعتمد في استمراريتها علي المؤسسات القمعية " القوات المسلحة – الأمن و المخابرات – و الشرطة و غيرها من المليشيات" مما يجعل أجندة الأمن تسود علي غيرها، لذلك عجزت هذه النظم في المنطقة العربية و الإسلامية، أن تخلق استقرارا اجتماعيا، أو أن تحدث تنمية تؤدي لرفاهية شعوبها، بل ظلت بأستمرار في نزاعات و حروب بسب علو الأجندة الأمنية علي الأجندة الأخرى، فطبيعة النظام القائم في البلاد هو الذي يفرض علي المجتمع الأجندة، و أيضا علي المثقفين، و هؤلاء لا يستطيعون الخروج كليا عن الثقافة التي رسختها النظم الشمولية، فأحترام رأى الأخر يواجه بإشكاليات كثيرة، ليس المنع، و أيضا طبيعة الجدل و الحوارات السائدة بين المثقفين في المجتمع، و المثقفون المقيمين في السودان معذورين، بسبب ضعف الثقافة الديمقراطية، و لكن الذين يعيشو في مجتمعات ديمقراطية، فبدلا من تصحيح الفهم الخاطئ للمارسة الديمقراطية، تجدهم منجذبين إلي ثقافاتهم القديمة، و يمارسون أساليب القمع بانها أدوات ديمقراطية. كان من المفترض أن يقدم الشخص رؤيته دون الدخول في مجادلات شخصية مع الآخرين، و القراء هم الذين يحددون ما هي الرؤية الصائبة، و لكن يفهم المثقفون السودانيون أن الحوار الديمقراطي هو السماح فقط أن تقول رؤيتك و تظل تناكف الآخرين حتى يتبعوا هذه الرؤية، و إذا لم يقدموا فروض الولاء و الطاعة ينعتوا بالجهل و غيرها من طيارة الألفاظ الدالة علي الغيظ و عدم الرضى. فالمتوقع من المثقفين السودانيين الذين وجدوا فرص العيش في ظل نظم ديمقراطية أن يكونوا مصادر للمعرفة و الإصلاح و التغير و خاصة في المفاهيم الخطأ السائدة في المجتمع، و معروف في المجتمعات الديمقراطية إن أحترام الأخر ليس فقط للذي يدخل في الجدل بفكر مغائر، أنما أحترام للمستمع و المشاهد و القارئ أيضا، باعتبار له عقل قادر علي الاستيعات و التمييز و الفصل في المطروح من أراء، و لكن دائما في الحوارات و علي قلتها في المجتمع يتم جهل لهولاء، و يعتبر إن الحوار بين تيارين الذي يقول الرؤية و المعقب عليها، و استبعاد في مخيلة المتحاورين لهؤلاء، لذلك فشلت النخب في توصيل رؤاها وسط قطاع الجماهير، و عقل البندقية، دائما يميل للشعبوية، لأنه لا يكترث للإقناع، إنما إلي التعبئة، لذلك لا يستطيع أن يحدث واقعا مغايرا. كان من المفترض أن يأخذ الحوار تقديم كل شخص لرؤيته، في إطار عام، دون الدخول في مناكفات شخصية، لآن مثل هذا الحوار حتما سوف يجعل الحوار ينحرف إلي مسائل شخصية تغيب عنها القضية المطروحة للحوار. و بما إن الثقافة الديمقراطية في السودان ثقافة ضعيفة، فتجد الكثيرين يمارسون النقد و ينتقدون الآخرين، و لكنهم يسيئهم إذا انتقدهم الآخرون، الأمر الذي يجعل الحوار دائما ينحرف عن مساراته، و يتحول إلي مواجهات شخصية تنفر الآخرين. فالسؤال: في أية حوار كان، هل المشا ركون فيه هدفهم من الحوار أن يقدم كل رؤيته في القضية المطروحة، أم إنه يريد كل أن يدحض رؤى الآخرين؟ فالوعي الجماهيري دائما يأتي من خلال محاولات الفهم لكل رؤية، و المقاربات بينها، و طرح الرؤية بعيدا من الدخول في جدل منحرف إلي القضايا الشخصية. فمثلا الملاحظ في ندوات السودانيين و حتى السمنارات التي تقدم فيها أوراق و تثير مناقشات، تجد البعض يريد أن يتحدث ثلاثة أربعة مرات في قضية واحدة، و يطالب بفرص أكثر من الآخرين، لآن الحضور فهم رؤيته خطأ، هذه ليست مشكلة الحضور، و لكن مشكلة الشخص العاجز لتوصيل رؤيته بشكل سليم، و الفرصة الواحدة تكفي لكي يوصل الشخص رؤيته، و يترك التقيم للآخرين، و لكن دائما نحاول أن نمارس الشمولية بأنها ممارسة ديمقراطية. يذكرني هذا لرأى للمفكر البناني الدكتور علي حرب في كتابه " أوهام النخبة أو نقد المثقف" يقول في أحدي موضوعاته عن سلطة المثقف ( العلاقات بين المثقفين ليست تنويرية و لا تحررية، بل هي علاقات سلطوية، صراعية، سعيا وراء النفوذ، أو بحثا عن الأفضلية، أو تطلعا إلي الهيمنة و السيطرة، و أخيرا، فالمثقف يدعي التجرد و النزاهة و الانسلاخ دغاعا عن قضية الأمة و مصالح الناس، فيما هو يمارس مهنته و يدافع عن مصلحته) فالحوارات الدائرة بين المثقفين السودانيين، إن كانت علي صفحات الصحف الورقية، أو في الصحف الالكترونية، هي حوارات لا تؤدي إلي نتائج، لأنها لا تنطلق من القواعد الأساسية للحوار، مثل الحوار الجاري بين مثقفين حول دور جهاز الأمن، رغم إن هذا الدور يختلف بأختلاف النظم الشمولية و الديمقراطية. فقيادات النظام الشمولي و قيادات الجهاز، جروا الناس لقضية تقليص صلاحيات الجهاز، حسب فهمهم لهذه الصلاحيات، و وفقا للثقافة الشمولية السائدة و التي أدت إلي النزاعات و الحروب و الفشل في الاستقرار و التنمية، و ذلك يعود لأنهم جعلوا الأجندة الأمنية هي الأساس دون غيرها، لآن الهدف هو حماية النظام القائم و ليس الدولة. فدائما يتحدد دور الجهاز وفقا للنظام القابض علي السلطة في البلاد. فمثلا في الدول الديمقراطية نجد هناك ميزانية لمؤسسة الأمن و المخابرات تفوق ميزانية السودان العامة عشر مرات، و لكن هذه المؤسسات لا تتدخل في النشاط السياسي، تمنع الأحزاب أن تقيم نشاطاتها، أو تصادر صحف، أو توقف كتاب عن الكتابة، و تعتقل البعض بسبب أراءهم المخالفة للسلطة. هذه من أختصاصات الشرطة و القضاء. و لكن المشكل في السودان ظلت الثقافة الشمولية هي الثقافة السائدة، و الكل يجد نفسه مجرورا إليها دون أن يدري. و السؤال أيضا يطرح، للمؤيدين لدعم صلاحيات الأمن أو عدم المساس بها، إن النظم الشمولية في السودان استمرت أكثر من نصف قرن، و جعلت الأجندة الأمنية علي قمة الأجندات الأخرى، و لكنها فشلت في أن تؤسس للإستقرار و التنمية في البلاد، إذا ما هو السبب؟ في وجهة نظري إن عقل البندقية الذي استمر لأكثر من نصف قرن، و فشل في تأسيس الدولة المستقرة، يعود لمشكلة التفكير عند هذا العقل، الذي يعتمد علي القوة في تأسيس الدولة، و القوة لا تبني مجتمعات مستقرة، لأنها تفرض شروط المسيطرين أو القائمين علي هذه القوة علي الآخرين و يطالبون بالولاء. أم الذين يبحثون عن التغير الديمقراطي ليس شعارا إنما مبدأ و إيمانا، هؤلاء يبحثون عن سيادة الحق، أي العقل المفتوح لتيارات الأفكار و التلاقح بينها بعيدا عن أية استخدامات للعنف. فالخلاف فكري و ليس سياسيا في هذه القضية. كما إن التاريخ الإنساني و في كل المجتمعات في العالم لم يحدثنا إن عقل البندقية استطاع أن يؤسس دولة حديثة أمنة ومستقرة و متقدمة اقتصاديا. و هي قضية تحتاج لحوار بين التيارات الفكرية المختلفة بعيدا عن فرض السلطة ألأبوية " البطريالكية" و مبدأ الوصايا و امتلاك الحقيقة. و نسأل الله حسن البصيرة. و الله أعلم.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة