بسبب الإنقاذ, كم منا في سوداننا ترك والديه أو أحدهما أو جده وحبوبته يعيشون في دار العجزة والمسنين؟ بالطبع غالبيتنا .. الغالبية منا تعيش هذه المأسآة وبصورة شخصية ومحزنة ومؤلمة .. بدون أن نشعر نترك الأب والأم، الجد والحبوبة في دار العجزة .. ودار العجزة الذي أقصده، والذي نعرفه كلنا، هو بيوتنا التي هجرناها وتغربنا وتشردنا منها .. نتركهم لوحدهم .. من الممكن يكون الوالدان قد رزقها بعشرة أولاد وبنات ولكن لا يفضل منهم واحد ليرعاهم .. وعليه، أحكي لكم تلك القصة الحقيقة المؤثرة المحزنة:
وهي قصة أسرة أعرفها .. بيتهم في حي الرياض بالخرطوم .. حدادي مدادي .. الأب صاحب البيت كان موظف كبير في حكومة السودان .. ذريته كلها أولاد .. ليس لديهم بنت واحدة .. خمسة أخوان .. الولد البكر عميد كلية في أحد جامعات السعودية .. الولد التاني في السلك الدبلوماسي في سفارات السودان .. الولد التالت طبيب في أمريكا .. الولد الرابع مهندس في أرامكو السعودية .. الولد الخامس صيدلي في قطر .. البيت فاضي تب .. فقط الأب والأم المسننان و٢ خادمات فلبينيات خلقن من هذا الييت الكبير أحلى دار عجزة في الدنيا كلها .. خدمات وحنان ورقة ورقي وضيافة رحبة وإكرام للزائرين خاصة عندما تعود أسر الأولاد في إجازات الصيف
ماتت الأم .. بقي الأب الحزين متجولاً خارج السودان ضيفاً على أولاده الطيبين العطوفين .. بلغ به الكبر مبلغاً حرجاً .. وكلنا نعرف حكاية زوجات الأولاد والحساسيات المفرطة .. وحتى لو كن مجبورات على هذه الوضعية، فهل هي حكاية سهل هضمها؟ .. حزنت دكتورة سلمي على حال عمها، شقيق أبوها، من بعض المواقف في بيوت نسوان أولاد عمها .. عملت كم شكلة كدا مع بعضهن .. والرجل نفسه أبية .. على كل حال قعد في بيته في الرياض وحلف ما يعتب برا بيتو .. يا سلام على دكتورة سلمى الملاك .. .. صحي البنات مافي زيهن .. تركت بيت زوجها المهندس في سكر كنانة .. وتركت وظيفتها كطبيبة في مستشفى سكر كنانة .. حضنت عمها في بيته تساعدها حبشية رائعة بت ناس .. د. سلمى زوجها راجل ود حلال .. ما رفض وما إمتعض .. بقا يجيهم كل خميس ويرجع لسكر كنانة فجر السبت سائق الاندكروزر .. مشوار صعّب .. وتأزم إقتصاد البلد .. المعايش جبارة .. القروش ما بتكفي .. هاجر الزوج في وظيفة محترمة تبع مترو دبي .. أصبحت سلمى بين نارين .. أولادها كبروا وزوجها يحتاجها .. تمشي وتجي .. الخرطوم دبي - دبي الخرطوم وبالعكس .. ولـــــــكن !!! مات الرجل في يد الحبشية المخلصة الطيبة .. في داره دار العجزة والمسنين الخاص الذي يملكه .. لم يحضر الفاجعة أي واحد من أولاده .. سلمى زاتا ما حضرت .. كانت في حفل تخريج بنتها البكر في الجامعة الأمريكية في دبي .. نقول شنو؟
أيضاً أعيش لحظات مريرة من تأنيب الضمير .. بعيد عن الوالدين .. أسأل الله أن يمد في عمرهما .. عايز أرجع السودان .. أكون بجوارهما .. طيب، الزول يشتغل شنو في سوان الإنقاذ دا؟ هم ديل خلو حاجة شغالا عشان الزول يشتغل فيها؟ على كل حال فكرت في مشروع ما في غيرو .. محل كوارع وجقاجق .. كوارع وجقاجق الدكتور البيطري .. إدارة وإشراف د. شهاب طه .. أخصائي صحة الكوارع والجقاجق .. إسم رنان وجذّاب .. ودي بمثابة دعاية رسمية من الآن .. بس ما تكلموا زول .. الشغل الوحيد المضمون .. لأنو ما في زول حا يكتب شيك طائر قصاد طلب واحد كوارع وواحد جقاجق كوكتيل مشكل .. المشكلات الوحيدة ناس الضرائب والمحلية .. وبرضو مقدور عليهم .. ولكن الأخطر ناس النفايات .. حأمقلبهم ليكم مقلب دولي .. الجقاجق تؤكل محلياً أما الكوارع حا تكون سفري بس .. ما في زبون يأكل كوارع في المحل .. ولا عضمة واحدة يخليها لينا في برميل النفايات
بالطبع في ناس كتيرة تستنكر أن يعيش أحد كبارنا في دار العجزة والمسنين في دول الغرب .. متذرعين بأننا ليسوا غربيين وهذا كلام غير مقبول إطلاقاً ولكن الدنيا تغيرت وللغرب سطوته ومؤثراته على العالم أجمع .. وطالما فرض على البعض أن يعيش في الغرب فليس له مفر من التعايش مع نمط حياة الغرب
في نهاية السبعينيات من القرن الماضي، كان هناك شاب طيب وجيه من أولاد جيرتنا في القسم الأول .. تزوج فتاة جميلة من الأقاليم ومن أسرة محافظة وبل متزمتة وووووإلخ .. جائت الزوجة الفاضلة لتكون شريكة حياة لزوجها المكافح وهو فني في مصانع النسيج، ملك المرحوم فتح الرحمن البشير، في مارنجان .. مرت الأيام وراقت للزوجة فكرة العمل مع زوجها كعاملة في نفس المصانع .. عرف أهلها ذلك الأمر الجلل وجاؤا في تلك الليلة التي كانت شبيه بليالي الغزوات .. سيوف وسكاكين وعكاكيز وهياج وكواريك وهيلمانة وووووإلخ .. وقفنا كلنا .. كل أهل القسم الأول كساتر ومانع لجرائم كانت سترتكب .. إنتهى الأمر بتطليق الزوجة وأخذها في نفس الليلة لقريتها .. فالقضية هنا كانت قضية ثقافة مجتمع له أعرافه ومعتقداته وعاداته وتقاليده .. ولكن هل ستكون تلك المفاهيم سائدة حتى اليوم في مجتمع هذه القرية؟ لا أعتقد .. قبل نصف قرن من الزمان كانت المدارس عيب كبير للصبيان أما الصبيات فحدث ولا حرج .. الداخليات تعتبر فجور وتغريب وتشريد للأولاد من أحضان أهلهم ووووإلخ .. أما بالنسبة للبنات فكان ذلك عيب تراق له الدماء .. دار العجزة عيب .. وملاجيء الأطفال عيب .. وعرض المرأة على الطبيب الذكر عيب .. وولادة المرأة في المستشفيات عيب وووووو إلخ فما هو الحال في نفس هذه المجتمعات؟ لكل زمان ولكل مجتمع ثقافة قد تتغير بمرور الزمن وموثرات التمحور الحياتي الذي يغمر العالم أجمع
قد نشجب ونعيب الغرب في كل شيء ولكن نمط حياة الغرب هو نمط حياة الغرب وليس بالضرورة أن يتماها مع ثقافاتنا .. فمن الرعونة أن نحكم على الأشياء بموجب ما نرى .. من عاش في الغرب تُفرض عليه ظروف الغرب .. ومن عاش في الخرطوم تُفرض عليه ظروف الخرطوم .. وإذا إنتقل مواطن الخرطوم لمسقط رأسه في أرياف السودان القصية فسيضطر للإمتثال لكي شيء هناك
قبل ١٠٠ سنة ما كان في سوداني واحد بخلي بيتو وحلتو وقبيلتو ومجتمعة عشان يفتش زرقو .. ولا سوداني واحد .. ولكن جاء الإنجليز الغربيون وسوا عمايلهم فينا .. وبدون ما نشعر فرضوا علينا واقع جديد .. كنا مجتمعات رعوية وزراعية وصيد وأسماك وغيره، فبدلوا حالنا لحضارة مدنية ونمط حياتي مختلف .. عمران المدن والمدارس والمستشفيات والمشاريع الزراعية والصناعية والسكك الحديدية وشوارع الظلط وتوصيل المياه والكهرباء للمنازل وعاصمة كبيرة كرش فيل ومشروع الجزيرة العملاق وووووإلخ .. فتغير حال مجتمعاتنا وبالطبع تغيرت عاداته وتقاليده
على كل حال، وبموجب مقالي هذا أجزم أن لكل واحدة وواحدة منكم رواية مأساوية تحكي حال كبار سن عاشوا معاناة الوحدة وبعد فلذات أكبادهم وغيابهم عنهم وهم في أشد الحوجة لهم .. لا يهم أين وكيف يعانون ولكن النتيجة النهائية واحدة وهي الوحدة والفقدان العاطفي المؤلم جداً جداً جداً .. والسلام
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة