في ذاك الصباح أراد الشيخ الترابي أن يصنع سابقة دستورية ..مضى بسيارته السوداء إلى البرلمان..قبل ساعات كان الرئيس البشير يُعلن حل البرلمان دون سند دستوري حيث لم يتحدث دستور ١٩٩٨ عن آليات حل البرلمان ..الشرطي العجوز الذي كان يهرع لفتح الأبواب تراخى عن أداء مهمته بل هرب ببصره بعيداً كأنه يلعن اليوم الذي جعله حارساً لتلك البوابة المهمة..لكن الشيخ العنيد يصر على تسديد رمية في شباك الشمولية..لم يتراجع الشيح حتى استنطق الحارس الذي أخبره أن ثمة تعليمات توصد أبواب البرلمان في وجه رئيسه المنتخب . بعد نحو عشرين سنة يتكرر ذات المشهد في البحر الأحمر..الجنرال علي أحمد حامد يطرد رئيس البرلمان الولائي من منصبه..كل ما فعله والي بورتسودان جمعه للمكتب القيادي للحزب الحاكم الذي يرأسه ..من منصة الحزب تم حل جميع لجان المجلس الذي تشارك فيه أحزاب أخرى ..لم يجد رئيس البرلمان المقال غير أن يخرج من الاجتماع غاضباً بصحبة عدد قليل من الأنصار. لم تكن تلك تجربة السقوط الأولى للديمقراطية في البحر الأحمر..قبل عامين أعفى ذات المجلس التشريعي وزيراً لكن الوالي التف حول القرار ليُعيد ذات الرجل إلى منصبه محفوفاً بالتجاوزات ..ولاية كسلا تنتظر ذات المصير عقب تمرد زعيم قبلي على الوالي ..ربما تكون إجراءات التأديب أكثر نعومة لأن الناظر محمد أحمد ترك تقف من ورائه قبيلة كبيرة..في الجزيرة يعمل الوالي من غير انسجام مع مجلسه التشريعي..لكن سابقة البحر الأحمر ستجعل كل والٍ يستخدم العصا لمن عصى في الجهاز التشريعي وربما يمتد الاستبداد ليصل سلطات أخرى جديرة بالاحترام ومحروسة بالاستقلالية. اللواء علي أحمد حامد، والي البحر الأحمر، وحسب الزميلة التيار- رفض التراجع عن تغوله على سلطات البرلمان..وأكد الوالي أن القرار يأتي ضمن موجهات قيادة الحزب بالخرطوم..هذا يعني أن الحزب الحاكم في الخرطوم يبارك هذا الانقلاب إن لم يكن يصفق له..لم يكن من الصعب توجيه عضوية الحزب الغالبة في ذات المجلس بالتمرد على رئيسه وسحب الثقة عبر الآليات والأعراف البرلمانية..لكن في الأمر رسالة إلى كل من تحدثه نفسه بتصديق نكتة الفصل بين السلطان..وبما أن الاستبداد مزروع في عقلية القائمين على الحزب الحاكم فلهذا يفضلون استخدام آليات غير دستورية لفض أي خلاف ولو داخل البيت . في تقديري أن أسوأ ما في هذه الممارسات أنها تتم تحت بصر القانون..بل أحياناً باسم القانون.. ترزية الاستبداد جعلوا السلطة في المركز والولايات تنتهي بين يدي رجل واحد..لهذا من حق دافع الضرائب أن يتساءل عن جدوى كل هذه الأجسام الديكورية إذا كان البرلمان لا يستطيع حتى انتخاب رئيسه..الإجابة حاضرة فلسفة توزيع المناصب وتوسيع الهياكل تأتي فقط من أجل جمع المغانم..على كل نائب في البرلمان أن يمارس فضيلة الصمت حتى لا يلحق بمصير رئيس تشريعي البحر الأحمر الذي ظن أن الأشياء هي الأشياء. بصراحة..هذه الشمولية في التفكير والتنفيذ تولد بذرة التمرد خاصة في الولايات الطرفية ذات التركيبة السكانية عالية الحساسية..كل هذه المؤشرات تؤكد أننا دخلنا مرحلة هندسة الاستبداد.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة