عندما تكون النوايا الحقيقية شريرة عادة ما تُستر بأقنعة تخفي الشّر وتسوّق عبثا لخير لا وجود له. لكن سرعان ما تتداعى الأقنعة وتنجلي الحقيقة ويستوعب الـمُقنّعون الدروس؛ في المسرحية اللبنانية الشهيرة «هالة والملك» (1967)، وفي أثناء الاحتفال بعيد «الوجه الثاني»، رفضت «هالة» دعوة «الملك» للزواج منها والبقاء في قصره وفضّلت حياة الفقر والبساطة. بيد أن الملك تنكّر في ثياب الشحاذ، وقابل «هالة» ليعرف منها سبب الرفض. فلم تعرف أنه الملك وأخبرته عن الفقر في المدينة، وعن فساد حاشية الملك. ثم اكتشفت أنها تتحدث مع الملك نفسه لكنها مضت تنصحه بشيء من السخرية الحميدة، بألا يحاكم أو يسجن كل المخادعين الذين يحيطون به، لأنه عندها لن يبقى من يحكمه. وتنتهي المسرحية بأن تغادر «هالة» المدينة كما دخلتها: غير متزوجة، فقيرة، وشريفة. في عالم اليوم العبثي تمثل المنظومة الغربية إمبراطورية ضخمة ومُلك عضود يحكم العالم أو يحاول حكمه، لا سيما ما تسميه هذه المنظومة بمنطقة الشرق الأوسط، مهد الحضارات ومستودع الثروات ومهبط الأديان، عبر وسائل عديدة ومتنوعة تبدأ باستخدام الأقنعة عبر العولمة مرورا بـ»صناعة الدين» وقد تنتهي بوضع الأقنعة جانباً وإمعان الصاروخ والدبابة وطائرة الدرون الانتحارية. إن العولمة أو البرجوازية الغربية، ليست شيئا سوى الثقافة الغربية، أو هكذا يراد لها أن تكون ثقافة تُعمّم، وذوقاً واحداً يفرض على جميع البشر، تُلغى بموجبها الاختلافات والتمايزات الحضارية. وهناك معطيات محددة تفرزها العولمة من أبرزها أن العولمة مصدرها ومركزها الغرب؛ وأنها ليست أدوات ووسائل تقنية حديثة أو أنماط إنتاج جديدة بل هي مضامين قيميّة وثقافية. لذلك يكون للخوف والتحفظ في التعامل معها ما يُبرره. لذا يجب النظر باهتمام إلى الجوانب الخفية لبريق العولمة. وليس خافياً أن كل من يطلق تعبير «الحضارة» غالباّ ما يقصد به الحضارة الغربية. في أعقاب سقوط الإمبراطورية العُثمانية غدا التغريب أشدّ خطورة لا على الأمن الثقافي فحسب، وإنما على الأمن القومي العربي والإسلامي برمته. فالتنافس المحموم بين الإرساليات الكاثوليكية والإنجيلية أدى إلى قيام منظومتين ثقافيتين عالميتين، هما الفرانكوفونية والانجلوساكسونية. لقد طُرح على المنطقة العديد من المشروعات في الآونة الأخيرة منذ مؤتمر مدريد للسلام في الشرق الأوسط في بداية تسعينيات القرن المنصرم، ولا تنتهي عند «الشرق أوسطية» التي طرحها في السابق الرئيس الإسرائيلي الأسبق شمعون بيريز بعد اتفاقيات أوسلو، ثم «السوق الشرق أوسطية. وتتجلى أطروحة العولمة في جل أو بعض مقترحات المؤسسات ذات المنشأ والرعاية والسيطرة الغربية مثل البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، ومنظمة التجارة العالمية، حيث تُطالب الدول النامية بالتكيف الهيكلي وإزالة القيود أمام البضائع الأجنبية، وتحفيز نوازع الاستهلاك، وهو منهج لاشك وجد لترسيخ التبعية الذي يعبر عن الفكر الغربي. بينما بقي جوهر فكرة الاحتواء والسيطرة كما هي دون أي تغيير، فإن وسائل وأساليب تحقيقها كانت ولا تزال قابلة للتعديل والتغيير وفق تطور وملابسات الظروف المتجددة. وفي إطار قناع جديد يبرز مشروع آخر يهدف لعودة السيطرة الاستعمارية شبه المباشرة، وقد تعود معها علاقات الامتيازات التي حكمت ثروات المنطقة لنحو نصف قرن من الزمان قبل حملة التأميم في عقدي الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي. في غمرة التردي الاقتصادي والانحطاط السياسي والعسف الاجتماعي، يأتي «الملك» اليوم مرتديا قناعا آخر يوظف فيه الدين سياسيا، «دين جديد» يصنع في مصانع الهيمنة الغربية. «الديانة الإبراهيمية» منتج غربي جديد يسوّق منذ سنوات مضت، ديانة ليس لها أسس أو أتباع أو كتاب. بل هي مشروع يقول عُرّابوه، أن أساسه العامل المشترك بين الديانات الثلاث، الإسلام والمسيحية واليهودية، باعتبارها أديانا إبراهيمية، نسبة إلى النبي إبراهيم عليه السلام. بزعم «التركيز على المشترك بين الديانات والتغاضي عن ما يمكن أن يسبب نزاعات وقتالا بين الشعوب». وبقناع محكم الصناعة عنوانه «إقامة السلام بين الشعوب والدول بغض النظر عن الفروقات»، يفتعل خلطا متعمدا بين فضيلة قبول الآخر ومفهوم التعايش بين هذه الأديان، وبين امتزاجها وذوبان الفروق والقسمات الخاصة بكل منها، فاحترام عقيدة الآخر شيء والإيمان بها شيء آخر تماما. حتى إن هذا الخلط المتعمد أدى إلى نتيجة مستهدفة ومتوخاة تمثلت في هل المطلوب تعاون أتباع الأديان الثلاثة على ما بينها من مشتركات وقيم إنسانية نبيلة أم المقصود صناعة دين جديد لقيط فاقد لسند الأبوين. ولعل كثيرا من المخدوعين أن هذه الدعوة بدت لهم في قِناعها، دعوة للاجتماع الإنساني والقضاء على أسباب النزاعات والصراعات، ولكن في حقيقتها دعوة إلى مصادرة حرية الاعتقاد وحرية الإيمان والاختيار. ولم يكن الاعتراض على «الديانة الإبراهيمية» من جانب رجال الدين الإسلامي فحسب، فقد عارضها آخرون. باختصار شديد إن مشروع الدين الإبراهيمي، مشروع سياسي بحت هدفه دعم وتوسيع دائرة تطبيع العلاقات مع إسرائيل في المنطقة العربية خاصة. فموجة التطبيع الأخيرة مع المحتل الإسرائيلي قامت على أساس اتفاق سمي بـ «الاتفاق الإبراهيمي». وجاء في نص إعلان الاتفاق، المنشور على صفحة وزارة الخارجية الأمريكية، يرد ما يلي: «نحن نشجع جهود دعم الحوار بين الثقافات والأديان للدفع بثقافة سلام بين الديانات الإبراهيمية الثلاث والإنسانية جمعاء». وقد كان طبيعيا أن يفضي الارتباط بين مشروع الديانة الإبراهيمية والتطبيع مع إسرائيل إلى رفض شعبي كبير للتطبيع وللقناع الجديد.
عناوين الاخبار بسودانيزاونلاينSudaneseOnline اليوم الموافق January, 16 2023
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة