الكريم إنّ الكريم لكالربيع تحبه للحسن فيه وتهش عند لقائه ويغيب عنك فتشتهيه لا يرتضى أبداً لصاحبه الذي لا يرتضيه وتراه يبسم هازئاً في غمرة الخطب الكريه وإذا الليالي ساعفته فلا يدِلّ ولا يتيه كالورد ينفح بالشذا حتى أنوف السارقيه
ما زلت أحفظ هذه الأبيات عن ظهر قلب ولا يزال صداها يرنّ في أذنيّ. أستذكر أيامي بمدرسة بيت المال الابتدائية ووقفة أستاذي عثمان الأمين، أستاذ اللغة العربيّة، بهيّ الطلّة، ناضر الأسارير، باسم المحيّا، ألق الهندام، جزل الكلمة، ودود الخلق، كنّا نعشقه، نمجدّه ونوّده نحن الصغار إلى أبعد الدرجات كأب يَرأمُنا وصديق نحتمي بلطفه عند الشدّة، تعلمنا على يديه حبّ هذه اللغة العظيمة، وطفنا معه أرجاء الدنيا على براق الأسطر وعلى صهوة أبيات الشعر نطرق بيبانها، الباب تلو الآخر. حدثنا في درسه ذات يوم عن شعراء المهجر وانتقى من بينهم في أول مرّة الشاعر إيليا أبو ماضي. بدأ يقرأ القصيدة وينثرها تبرا في أرجاء الفصل: سحر، جزل وإبداع. ثم يناجي الفصل: تعرفوا يا ابنائي: نرى في هذه الأبيات أن مفهوم كلمة “الكريم” قد تعدّى حدود الكرم بالقروش أو الهبات إلى مرحلة أكبر وأعمق منها هي مرحلة الخلق والقيم المعنويّة العليا. يقول: هل ترون في البيت الأخير جمال النغم وسحر الصورة التشكيليّة؟ تخيلوا أنفسكم في بستان ملئي بالأزهار والورود، وكل زهرة تهب لنا شذاها وعطرها الأخاذ، فشاعر لبنان الأستاذ إيليا أبو ماضي يُشبّه الكريم بورود هذا البستان تماما. هل ترون الجمال؟ هذا البستان يجود، دون تردد، لكل فرد حتى لمن دخله من أجل أن يسرق أزهاره ووروده اليانعة الذكيّة. فالوردة نجدها كريمة لدرجة أنها لا تستثني أحدا، حتى ذاك الذي سرق عطرها وعبقه، ورغم أنه اجتثها وقتلها ظلما وعدوانا، وحتى ولو أنه دخل البستان خلسه وفي غفلة ليقطفها دون أن تراه الأعين. فالوردة أو الزهرة والكريم يلتقيان بل يجتمعان ويتناغمان في هذه الشيمة النبيلة: العطاء دون مقابل حسيّ، السخاء دون دافع ماديّ أو أيّا كان. هذه الأبيات مرافعة إنسانيّة من الطراز الأول في البذل والعطاء والإخاء ونكران الذات وقد تتجاوز وتفوق درجات اللاحدود. فيجعل شاعرنا إيليا أبو ماضي من السخاء والكرم قضية أخلاقيّة وإنسانية ينبغي أن نقف إليها ونحن في حرمة هذه الأيام المباركة، فهو هاهنا قد جعل الكريم موضوعا محوريّا ووجوديّا رئيس، وكل هذه حكم إنسانيّة ويوتوبيا فاضلة لزرع المودة والمحبّة بين الناس. في سياق رمزية هذه المعاني ينتشي أيليا أبو ماضي بصفات العرب السمحاء ويحاول أن يوصل لنا رسالته قائلا إن مكانة الكريم في المجتمع مكانة سامقة نبيلة تبعث المحبّة والإعلاء تجاهه لما يتحلى به من صفات الخلّة التي تنعدم لدى الآخرين، إذ أن العادة السائدة، إذا رجعنا للأمثال والمقولات الشعبية توحي بالتقشف وجعل الأيدي مغلولة إلى الأعناق. لذلك تحتفي القصيدة التي نحن بصددها بالكرم في رمزيتها وبالإنسان الجوّاد. يشير فيها إيليا إلى أهم صفات العرب إطلاقاً: الكرم، فيحتفي بصاحبه ومكانته داخل المحيط المجتمعيّ، لن أفراده لا تكف عن محبته وإعلاء شأنه لما يتحلى به من خلة لا يتوافر عليها كل الناس، بسبب إدبار النفوس عن العادة النبيلة والصادقة في هذا الزمان، تلك التي تتطبع بالإملاق والتماوه عند الحاجة. فالجود ربما يُفقر الإنسان ماديّا لكنه يغنيه معنويّا وخلقيّا، والبُخل أردء الصفات البشريّة! أبو ماضي، شاعر لبناني، ولد في قرية المحيدثة في جبل لبنان في عام ١٩٨٠ (وفي بعض الروايات – طه حسين – ١٨٩١) وتوفي في مهجره بمدينة نيويورك عام ١٩٥٧ وهو رسولا للشعر ونبيا للأدب بعيدا عن الوطن في وحدة ووحشة إلا من قوافٍ. سطع نجمه في الشعر والأدب في العقد الأول والثاني من القرن العشرين وكان – دون أدنى شك – أحد دعامات تأريخ الأدب العربيّ المعاصر في سياق “الرابطة القلميّة” بالولايات المتحدة الأمريكيّة التي جمعت إذذاك العملاقين الشاعر والأديب جبران خليل جبران والقامة ميخائل نعيمة. اتسمت قصائده بالحكمة والمواعظ وكأنه شافعي القرن العشرين، كما نلمس فيها حسّه وقلقه تجاه اصلاح المجتمع وتوطيد أسس التواصل الاجتماعيّ به كما السيد المسيح: إن صفعته في خدِّه الأيمن بسط إليكَ خدّه الأيسر لتعيد الكرّة. لذلك تتضمن أشعاره في رومنسيتها الزاهرة ورمزيتها الشفيفة مفاهيم ساميّة خيّرة لقيم المحبة، الإخاء، الجمال، التسامح والكرم. ونجد تناص في ثيماته ومواضيعه الشعريّة وشعر فطاحلة شعر العربيّة، كالمتنبئ في قصيدته:
وتوحي أبيات المتنبئ كما قصيدة الكريم أن الأنفس تضن بالنفيس، وتُذكِّرُ بحكمة جميلة أن من حاز صفة الجود فهو لا ينتمي إلى عوام الخلق، إذ تنصرف روحه الوضيئة النبيلة إلى البذل والعطاء فترتقي بذلك إلى أعلى الدرجات، ارتقاء النفوس إلى درجة الكمال والكمال لله. ولذلك يُكِنّ له البشر جُلّهم محبة وود ويستبشرون ويهشون ويبشون لرؤيته، كما لو كان شمساً تنبلج في دوامس المجتمع وأرجائه الحالكة. ومن القصائد الخالدة في ذاكرة الشعوب، قصيدة الشاكي، دونكم أبياتها الحكيمة:
أيّهذا الشّاكي وما بك داء كيف تغدو إذا غدوت عليلا؟ إنّ شرّ الجناة في الأرض نفس تتوقّى، قبل الرّحيل، الرّحيلا وترى الشّوك في الورود، وتعمى أن ترى فوقها النّدى إكليلا هو عبء على الحياة ثقيل من يظنّ الحياة عبئا ثقيلا والذي نفسه بغير جمال لا يرى في الوجود شيئا جميلا ليس أشقى مّمن يرى العيش مرا ويظنّ اللّذات فيه فضولا أحكم النّاس في الحياة أناس عللّوها فأحسنوا التّعليلا فتمتّع بالصّبح ما دمت فيه لا تخف أن يزول حتى يزولا وإذا ما أظلّ رأسك همّ قصّر البحث فيه كيلا يطولا أدركت كنهها طيور الرّوابي فمن العار أن تظل جهولا ما تراها والحقل ملك سواها اتخذت فيه مسرحا ومقيلا تتغنّى، والصّقر قد ملك الجوّ عليها، والصائدون السّبيلا تتغنّى، وقد رأت بعضها يؤخذ حيّا والبعض يقضي قتيلا تتغنّى، وعمرها بعض عام أفتبكي وقد تعيش طويلا؟ فهي فوق الغصون في الفجر تتلو سور الوجد والهوى ترتيلا وهي طورا على الثرى واقعات تلقط الحبّ أو تجرّ الذيولا كلّما أمسك الغصون سكون/ صفّقت للغصون حتى تميلا فاذا ذهّب الأصيل الرّوابي وقفت فوقها تناجي الأصيلا فأطلب اللّهو مثلما تطلب الأطيار عند الهجير ظلاّ ظليلا
تربّى إيليا أبو ماضي في كنف أسرة مسيحيّة مؤمنة، زاهدة وبسيطة والتحق في قريته المحيدثة بالمدرسة الابتدائية الواقعة بجوار الكنيسة حيث القداس والخلوة إلى الربّ. هاجر بسبب اشتداد وطأة الفقر والفاقة التي عمّت لبنان في أوائل القرن العشرين. سكن بمصر في عام ١٩٠٢ وعمل بتجارة التبغ مع عمه وشاءت الأقدار أن يلتقي في القاهرة بحفنة من الأدباء والشعراء من بينهم أنطوان جميل، صاحب مجلة “الزهور”. أعجب هذا الأخير بذكاء الشاعر أيليا الثاقب، بخلقه الرفيع وأدبه الجم لدرجة أنه لم يتردد البتّة في دعوته لمشاركته له ككاتب بالمجلة. ورأت أولى قصائده بمجلة الزهور النور وذاع صيتها وانتشرت بسرعة مذهلة حتى صبّ كل هذه الأشعار فيما بعد في بوتقة ديوانه “تذكار الماضي” الذي نُشر في عام ١٩١١ عن المطبعة المصرية وكان شاعرنا حينئذ ابن الثانية والعشرين ربيعا. حتّمت هذه الفترة التأريخية على الشاعر فضلا عن دوافع وطنيته أن يتجه إلى مناهضة الظلم والاستبداد. فبدأ يكتب في السياسة والقضايا العالقة في أنفاس الوطن لا يخشى في الله لومة لائم مما سبب له عراقيل دعت إلى مطاردته سياسيا. فاضطر في عام ١٩١٢ أن يغادر أم الدُّنيا مهاجرا باتجاه الولايات المتحدة وجعل من أوهايو مسقط رأسه الجديد وأقام بها أربعة أعوام وامتهن التجارة مع أحد أشقائه. ومن ثمّة شدّ الرحال منتقلا إلى مدينة الجنون نيويورك وسكن بحي بروكلين وغدت مسكنه الأخير. وهناك شرع في تأسيس الرابطة القلميّة كما سلف ذكره مع جبران ونعيمة. من الدوريات الهامة التي كان لها أعظم الأثر في توثيق أقلام شعراء المهجر كانت مجلة “السمير” التي أسسها أيليا أبو ماضي نفسه وهي تعتبر مصدرا أوليّاً لأدب المهجر، لا سيما أدباء المهجر الشمالي. واستمر يصدرها إلى أن وافته المنيّة في عام ١٩٥٧.
الدواوين: الدواوين: الخمائل، تبر وتراب، الجداول، ديوان أيليا أبو ماضي، تذكار من الماضي.
-- Dr. Mohamed Badawi
Bodanrückweg 6 D-78467 Konstanz Deutschland / Germany
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة