لقد غيّب الموت فنان الفاشر الشهير عبد العزيز آدم الملقب ب " عزو " لقد وُلد بمدينة الفاشر وعاش فيها، رحل عن دنيانا الفانية قبل أسبوع من اليوم، يُعد "عزو" من الشخصيات التي فرضت نفسها على مجتمع المدينة على مدار أكثر من أربعين عام، محباً متبتلاً في محرابها، وكناراً مغرداً في أغصان دوحها ورياضها، ينثر الحب والود أينما حل في ربوعها، فلا غرو إن ساد المدينة حزنٌ دفينٌ لفراقه.
لم يكن "عزو" في حياة الناس بمدينة الفاشر أثراً عابراً، ومن العسير المرور على خبر رحيله مرور الكرام دون رصدٍ لبعض أوجه الأثر الذي تركه في حياة ووجدان الناس في مدينة الفاشر، تلك المدينة التي أحبها ودوزّن من أجلها أجمل الألحان وأرقها طيلة أربعين عامٍ، فغنى لها طائفاً بأحيائها:
شوقي للحبان في الفاشر السلطان ... حبي ليك زمان فوق الصدير نيشان...
مكركا وناسا تاريخا ونحاسا .... نزل القمر كاسا وفي الوجنتين باسا ...
أنا لي أمنية تتحقق النية ..... طيارة طيري بي فوق حي الزيادية...
أنا قلبي كلو هيام للقبة ألف سلام ... يا اخوانا مافي كلام أجمل جميلة سهام ...
بدأ "عزو" حياته الفنية وهو تلميذٌ في مدرسة الفاشر الأهلية المتوسطة، تفجرت موهبته في الغناء في فعاليات الجمعيات الأدبية والفنية بالمدرسة، وكان لتشجيع زملائه القدح المُعلى في نجاحه، لقد زامل كل من الأستاذ الإعلامي المتفرد محمد الكبير الكتبي والأستاذ الإعلامي أسد مصطفى أسد وآخرون، جميعهم أفرزتهم الجمعية الأدبية بالمدرسة الأهلية، وفي مرحلةٍ متقدمةٍ من عمره أسس مع آخرين فرقة فنون دارفور وفرقة فنون مدينة الجنينة وبعد إلتحاقه بالجيش أسس فرقة الجلالات بالفرقة السابعة مشاة.
وكان من اللافت والمثير للإعجاب أن يؤدي أغنيتي "مريا " للفنان حمد الريح والتي كتبها الشاعر الراحل صلاح أحمد إبراهيم و"الندامى" للفنان الخير عثمان وشاعرها محمد عثمان عبد الرحيم وهو تلميذ صغير في المدرسة الأهلية، ثم برع في أداء أغاني الفنان حمد الريح حتى إقترن إسمه به في ذاكرة أهل المدينة، لقد عاصرناه يُغني ونحن أطفالٌ أيفاع، ثم في ميعة الصبا وزهو الشباب، فعرف جيلنا أغاني حمد الريح منه أكثر من ما عرفها من الفنان حمد الريح نفسه، فرسخت في ذاكرتنا الغضة أغاني مثل مسّاخة الحلة :
يامسّاخة الحلة ... يوم ناس آمنة فاتوا ...
والقمرا غابت في عشياتو ...
والقمري عشعش ماقوقن جنياتو ...
نحب ياتو .. نسيب ياتو ؟ ... ( هنا نردد معه ونكرر نحب ياتو ... نسيب ياتو؟).
وأغنية ما بالنية:
ما بالنية فرقك يا الدرة المكنية ... طال هجرك وزاد يا بنية ...
هطلت دموع عينيا .... هدمت آمالي المبنية ...
كأني أثيم يا بنية ...
وعامل في الدنيا جنية....
هذه الأغاني ما سمعت يؤديها حمد الريح أبداً إلا وتذكرت الفنان "عزو" الذي يؤديها بمستوىً عالٍ من التطريب، وقد أجاد في أداء تلك الأغاني وألهب بها وجدان الشباب في ذلك الزمان، وفيما بعد عندما بدأ نضجه الفني غني للمحبين والعشاق أغنيته الرائعة:
قاضي الغرام جيناك أسمع شكاوينا ...
إحنا بنحب زول بنارو صالينا ...
مما يُميز راحلنا المقيم أنه لم يقف أثره في المدينة على الغناء والتطريب فحسب، إنما كان صاحب طرفة ونكتة، فما جلس في مجلسٍ إلا كانت روحه المرحة حاضرة، فهو لا يمّل من سرد النكات والطُرف والمُلح، يلتقي أهل مدينته في مجالس أنسهم فيضفى للمجلس روحاً حميمة، تسري نكاته بينهم فيضحك الجميع، ثم يمضي لحال سبيله، كان صديقه الفنان الراحل عبد الحميد الشنقيطي مغترباً في دولة ليبيا وعندما يُرسل الشنط المعبأة بالملابس والهدايا يرسلها عن طريق عنوان صديقه "عزو"، فعندما يستلمها يأخذها إلى والدة الشنقيطي وبعد أن يسلمها يقول لها يا يمة حليمة ( أفتحي الشنط وأدينا من الحاجات السمحة بتاعة ليبيا) فترد له ضاحكة ( عبد الحميد قال يُحفظ ) فيضحك لردها فهي تعلم إنه يُمازحها، طرفه كثيرة لا تُعد ولا تحصى.
للفن سحره وتأثيره النفسي الطاغي خاصة عندما يقترن بالمناسبات السعيدة، مثل الزواج وحفلات الختان ومناسبات النجاح، فعلى مدى أربعين عام كان "عزو" يُغني في أفراح أهل مدينة الفاشر ويُشاركهم اللحظات الوردية السعيدة ولياليهم الحالمة والمخملية، فرسخ في ذاكرة أهل المدينة واحتل ركناً مميزاً في ألبوم ذكرياتهم العزيزة، صغيرهم قبل كبيرهم، ولذا لن تجد أحد من أهل مدينة الفاشر لا يعرف "عزو"، ولكن كيف يعرفون "عزو"؟ أو كيف تبدو صورته في مُخيِّلة المدينة؟ يعرفون أنه ذلك الأخ والصديق والفنان الذي شكّل بعضاً من وجدان مدينتهم في عالم الغناء، فغنى لهم وأطربهم في أفراحهم ومشى بينهم محباً ومجاملاً، باذلاً المودة والحب، والضحكة والبسمة الجميلة، ومن كان ينتظر أن ننقد الجانب الفني من غنائه فنقول له إن "عزو" لم يكن فناناً كثيف الإنتاج بالمفهوم الذي يسود عند سائر نُقّاد الفن وأهله، حتى أغنياته الخاصة كانت قليلةٌ مقارنةً بطول فترة إرتباطه بالغناء، فله أغنية قاضي الغرام والفاشر يا بلدي وأخريات لم تسعفني الذاكرة لذكرها هنا إضافةً إلى أغاني التراث، ولكن "عزو" كان أكبر من ذلك بكثير فقد وسم عصره في مدينة الفاشر بشيءٍ من ذلك وبما هو أكثر من ذلك، إذ إستخدم النذر القليل من الفن والكثير من الحب ليصل إلى قلوب أهل مدينته ويتربع في سويدائها، فهو خبيئة فاشرية مكنونة بين أضلع أهل المدينة.
فوداعاً "عزو" ووداعاً تلك الأيام الخوالي.. وليتغمدك الله برحمته وينزل عليك شآبيبها.
عناوين الاخبار بسودانيزاونلاينSudaneseOnline اليوم الموافق January, 23 2023