كان صوفياً بسيطاً في ملبسه ومأكله ومشربه توّاق للزهد والتعبد والتبتل، لم يكن درويشاً ساذجاً يدور حول جسده وفلك أضغاث أحلامه كما صوّره (الدنيويون)، بل كان مركزاً لاحتشاد المعاني النبيلة بوجدانه النقي، تحرّكت نزعاته الانسانية الفطرية الرافضة للظلم والبغي والعدوان، فناهض الدخلاء والغزاة المستبيحين للأرض والهاتكين للعرض، دانت له شعوب السودان من غربها لشرقها ومن شمالها لجنوبها، ليس رضوخاً لسطوة العنف ولا خوفاً من جاه أو سلطان، وإنّما حبّاً وكرامة في إنسانية الإنسان وجاهزيته للفناء من أجل السودان، آخى بين أوس الشرق وخزرج الغرب فخاض نضالاً مقدساً أخرج بموجبه البغاة والغزاة وطهّر الأرض من الدنس والرجس، فتح الدرويش الثائر آفاقاً جديدة صنعت الشخصية السودانية الحاضرة، وأسس لوجدان جمعي مشترك صخرته متماسكة صلدة صماء لم تقدر امبراطورية الشمس المشرقة على تفتيتها، اجتمعت حول أثير هالته الكارزمية الطاغية كل سحنات وحركات وسكنات قومه، فتضافرت عدة عوامل جعلت منه ملهماً روحياً وقائداً ميدانياً فذاً لم يجود زمان هذه البلاد بمثله، بذر بذرة طيبة في الأنفس أن جعل فريضة مناهضة الظلم خصيصة ماثلة داخل هذه الأنفس المتصوفة الصادقة والأمينة، ما أدهش عوالم الأمس واليوم فحارت من أي مدخل من المداخل تلج إلى هذه النفس المتصوفة، فتزاحمت المبادرات على أبواب القصور دون جدوى. إنّ خصائص الدرويش الثائر قد نال ثوار ديسمبر منها حظاً وافراً، كيف لا وعلوم الطب والجينيوم والفلك والنجوم والما وراء جميعها تذهب باتجاه استحالة فناء الروح والمادة، وتؤكد على حتمية مبدأ التحول في كليهما، فاذا ما مكث في الأرض ما ينفع الناس من طيب موروث الأولين، فإنّه من المبصوم عليه بالعشرة أن المنفعة آتية للآخِرِين لا محال، فذات سهام النظرة الساخرة التي ناشت الدرويش من الأهل الأقرباء والغزاة الغرباء، اليوم تنتاش الدراويش الجدد الصغار أصحاب الشعر المجعّد والملابس الرثّة، فهذا الكوكب الأخضر لا تمر عبره الأحداث والظواهر اعتباطاً، وما يجري من عناد شبابي صامد ورافض للظلم والعدوان ما هو إلّا استرسال وتمدد لما بدأ قبل قرن ونيف، وهنا لا بد من الإشارة إلى حقيقة مهمة ألا وهي واقعية حدوث انقلاب دورة الأشياء بعد كل انقضاء مئوية من الزمن، تماماً كما عاد الطاعون الّلعين في ثوبه الجديد (كورونا) بعد قرن من فتكه بالأمم والشعوب مفتتح القرن الماضي، فهاهي الدروس والعبر الكونية التي هيأ لنا المهندس الأعظم سانحة أن نصغي لمحاضراتها، عسانا أن نتدبر أو نتفكر أو نتعظ بأن لكل دور إذا ما تم نقصان، وأنه لا يجب أن يُغر بطيب العيش إنسان، كائن من كان، فدماء الدراويش الصغار المسفوحة على أرصفة المدينة التي شهدت أعظم حدث أخريات القرن السابع عشر – تراجيديا ذهاب روح غردون للذات الإلهية– لن تضيع هدرا. ما أشبه الليلة بالبارحة، الضرائب الباهظة والقتل والسحل وطغيان الحكم وجبروته وبطشه، والامتعاض والتضجر والملل والكلل الشعبي وضيق العيش، هي نفسها الأسباب والدوافع التي دفعت بالدرويش الطيب السجيّة والمسالم الممتليء بحب الخير للآخرين لأن ينتفض ويثور، فهبّة الثلاثين من يونيو الماضي أذهلت العقول بشمولها لكل حواضر البلاد، لقد كان مشهداً رائعاً أدمعت الأعين فرحاً لأجله، تماسك وجداني جماهيري لا مثيل له طاف بقرى ومدن الداخل وعم عواصم المهجر الجليدية والصحراوية. وزيارة السفير الأمريكي للمتصوفة في عقر دارهم تأتي في سياق ما نحن بصدده، فهو يعلم عن هذا الإرث ما لا يعرفه الكثيرون من ورثته برغم حملهم لغليظ الألقاب وتوشحهم بعريض الأنواط، فالرجل قاريء متميز لثورة الدرويش، لذلك بدأ من آخر صفحات كتاب الثورة السودانية، وبالطبع أن قراءته هذه ليست بالقراءة التي تصب في ماعون ومصلحة الحراك الثوري الوطني الخالص والخالي من شوائب الغرض، بل على عكس ذلك تماماً، فالرجل لا ولن ينسى تراجيديا ذهاب روح رمز إمبراطورية الشمس المشرقة غردون باشا للذات الإلهية بأسباب للدراويش لهم فيها الباع الطويل، ذلك الحدث الذي يعد علامة فاصلة في تاريخ الأمة، ودليل ومرشد صادق للقويين الدولية والإقليمية يشير إلى كيفية التعاطي مع هذه الأمة سياسياً واقتصادياً وعسكرياً.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة