بعد كم التضحيات ، ثبات الجماهير فى الشوارع و إنتصار ثورة ديسمبر المجيدة من المفترض أن يحدث تغيير جذري ونقلة نوعية في مفهوم العمل السياسي لدى النخبة السياسية، لقد خلقت الثورة أملاً يبدو الآن أشبه بحلم عابر، في أن يستطيع الساسة النخبويون السودانيون أخيراً استخلاص العبرة من عديد المآسي و الإنتكاسات التي ألمت بالتاريخ السودانى. وهذه العبرة بمنتهى البساطة، هي أن السلطة و السيادة يجب أن تعود للشعب، وأن المرتكز الاساسي للوحدة هو إستكمال مهام الثورة بالإعتماد على منجزات القوى الثورية فى إعادة تشكيل المشهد السياسي و الذى يبدأ بتواثقها على وثيقة تضبط طريقة الإنتقال الى الدولة المدنية الديمقراطية . كما لا يحق لأي شخص ولا لأي جماعة أن يعرقل تلك العملية أو أن يهضم حق القوى الثورية ذات المصلحة فى المشاركة فى صناعة القرار خصوصاً بعد فشل تلك النخبة السياسية فى إنجاز عملية الإنتقال حتى و إن كان ذلك الفشل مقصود أو غير ذلك ، و مهما كانت المبررات مبنية على ضرورة طارئة (إنهاء للإنقلاب)، فهى تريد حصر الجماهير الثورية في دائرة مفرغة من الإحباط والهزيمة ، بالترويج للوهم الليبرالى (الحل الصفرى) و لأنها تبدوعاجزة عن العمل السياسي الجماهيرى الشفاف فلا شئ يغتال الحقوق و يوضد أركان الإستبداد كالنفاق البراغماتي.
قبل قيام الانقلاب العسكري و إبان حكم الشراكة بقيادة حمدوك حكمت النخب السياسية وبعض شركائها على الثورة بالاجهاض نتيجة خوضهم فى تنازلات لا حد لها تحديداً عند إذدياد حدة التناقض بينهم ، فبدءوا بلعب دور الضحية لإستعادة تعاطف الناس و محاولات خلق وحدة غير مبدئية مع القوى الثورية التى كانت تنادى بإسقاطهم و طرح مبادرات لا تعبر إلا مصالحهم ما أفقدهم التأثير على الشق الثانى فى الشراكة و تصوير المعركة على أنها مدنيين Vs عسكريين ، فلم تنطلى تلك الوحدة الكذوبة على الشارع الثورى و التى كان المقصود منها التقاضى عن المحاسبة إبان فترة حكمهم و الهروب للإمام من واجبات حماية مكتسبات الثورة و إستكمال مهامها بإخراج مسرحية الإنقلاب ذات السيناريو الرخيص و بتكرار نفس النظرية المؤامراتية بإصرار وبلا كلل، لكنها مجرد حيلة دعائية و ظاهرة صوتية ، رغم إدعاءها الشكلى و ترويجها على أن هناك أرضية مشتركة مع القوى الثورية على نحو نمطي، بتجاه مستمر لمطلوبات الثورة و أهدافها إلا ماتفرضه مصالحهم الآنية ، و سرعان ما تتنكر لقوى الثورة حال صعودها للسلطة فهى لم تعرف إلا القليل عن قواعد الفعل الثورى، بل إنها في الواقع تنظر للثورة بعيون غربية ليبرالية و تتعامل معها كتغيير سياسي شكلى دون الإلتفات لشعارات الشارع الثورى المنادية بتجذير التغيير إقتصادياً و إجتماعياً.
حتى يومنا هذا ما تزال النظرة العامة لتلك النخب السياسية و فهمها لتطور و مسار الصراع السياسي الإجتماعى بعيد عن تطلعات الجماهير و مقتصر على خدمة مصالحها و مصالح القوى الخارجية، لذلك لن يكون هناك مستقبل لأى وحدة مع قوى الثورة طالما ستظل قوى المركز النخبوى سجينة هذا التصور الفوقى للمارسة السياسية كما لن يحدث أى إختراق فى العملية السياسية من خلال ذلك التصور النخبوى للمسار السياسي و الاجتماعى فى السودان. من جهة أخرى لن يدوم التعاون مع البيروقراطية العسكرية السودانية بتلك التوجهات الإصلاحية و الليبرالية ، فقد تغيرت ديناميكية العلاقة بين النخب السياسية و العسكرية من جهة و بين حركة الجماهير الثورية بشكل جذرى ، فقد تجذر الفكر الثورى الرافض لأى شكل من أشكال الوصايا فما عاد الشعب خائف أو حتى قابل للتخويف لأن التغيير الجذرى أصبح هو الخيار المصيرى للجماهير ، فإكتسبت الحركة الثورية (القاعدة المادية للتغيير) الوعى الثورى مما يجعل مسرحيات العبث النخبوى غاية فى الخطورة على الفكر النخبوى نفسه و ما نشهده من ردود أفعال فى الشارع الثورى مثال بيٌن على ذلك برغم قمع الدولة السلطوية على الحركة الثورية ذات المهام التاريخية.
الحقيقة المُرة أن القوى الغربية نفسها بدأت تنتبه لذلك الصعود و الذى سيودى عاجلاً أم آجلاً بذلك المركز النخبوي برغم إعتماده على أجهزة الدولة القمعية (التى يحاول إستعادتها خوفاً من الجماهير الثورية) للحفاظ على مكانته الأثيرة. إن محاولات إعادة إنتاج الشراكة بإشراك القوى الثورية خيال غير حميد من قوى المركز النخبوى و ستدفع ثمنه غالياً ، كما ستدينهم على ذلك حتى جماهير أحزابهم نفسها ، يبدو فعلاً أن النخب السياسية مصممة على إعادة التاريخ مرة أخرى لكن هذه المرة ستكون نهايتهم التاريخية فى الوجدان السودانى كما حدث للإسلاميين بعد إنهيارهم المريع، و تلك هى دروس التاريخ.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة