لم يحدث في عهد الدكتاتور أن تعرضت مقرّات المنظمات الأممية للنهب المسلح نهاراً جهاراً، مثلما جرى لمقر البعثة الأممية المشتركة بالفاشر، تحت ظل ادارة حاكم الاقليم الذي يتبع للحاكم العام رأس الجهاز السيادي، مئات سيارات الدفع الرباعي والمعدات والآليات اختفت في لمح البصر، بينما الحكام الجدد يبشرون المواطنين بالسلام المكتوب كتابه في جوبا، استبيحت مدينة الفاشر كبرى حواضر الاقليم المنكوب وعاصمته التاريخية، ونقلت الاخبار المصورة لقطات للدواب المحملة ظهورها بالأثاث الأممي الفاخر، وهي تقاوم كثبان الرمال متجهة صوب احياء المدينة المتفرقة، لقد انكشف غطاء عورة المتاجرين بمأساة النازح واللاجيء، وافتضح سلوكهم المكمل لعمليات النهب المسلح المروّعة للآمنين منذ ثمانينيات المئوية المنصرمة، واصبح المواطن بدارفور كالمستجير بنار الحركات المسلحة من رمضاء راعي الابادة الجماعية القابع بسجن كوبر، عبر مقارنة يتفوق فيها الاقليم المنكوب على رواندا في نصب خيام الحزن والهم والغم وتجرع كؤوس الموت الرخيص، فهؤلاء هم ابناء دارفور يسومون أهل دارفور سوء العذاب. ورقة التوت الكبيرة التي ازاحها أهل اقليم الشمال عن عورة الحكام الجدد، تركت العار يمشي متبرجاً على رؤوس الأشهاد، واستنطقت الصمت المطبق الذي خيّم على رؤوس الناس من هول الفجيعة، اللحوم والذهب والخيرات جميعها تخرج عبر البوابة الشمالية، لترفد ثلاجات قوم آخرين بما جاد به زرع وضرع السودان، الثروات القومية يسرقها من يفترض فيه القيام بواجب حماية الحمى، ليهبها الأغراب والأغيار دون أن ترتعد فيه مزعة لحم، من عجائب شعوب السودان أنهم جبلوا على تقبل ولاة أمر يرهنونهم للخزائن الدولية خدمة لرفاهية شعوب أخرى، فالدم والمال السوداني صار سلعة مجانية تعطى مقابل فتات موائد اللئام، فبعد أن انكشف المستور في اقليم الشمال واقصى اقاليم الغرب، على الحاكمين الجدد الترجل وتسليم مفتاح قصر الملك للقوي الأمين، فما جرى بالفاشر اثبت أن الأمانة هنالك مضاعة، وما قدمه (تروس) الشمال من عمل أكّد على أن ذمة الحاكم هنا مباعة، والثورة ليست هتافاً ارزقياً ولا صولة للجاهل فوق هامات الرجال الصادقين الأخيار. (البلطجة)، هو المصطلح الأقرب والأصدق الذي يمكن أن يطلق على سلوك القائمين على الأمر، ولا كلمة غير (البلطجة) يمكن أن تصف حالهم البائس، فهم يديرون الشأن الوطني بعيداً عن قيمة المواطن، ويستصدرون القرارات المصيرية سراً وهرباً وتهرباً وتهريباً، ولا يقيمون وزناً لمصير السكان واطفالهم الحالمين بوطن يضمن كرامة الانسان، فالمراقب لحركة تهريب ايرادات الثروات القومية لمراكز التجارة العالمية في كوالالمبور ودبي والدوحة وانقرة وسويسرا ولندن، يدرك أن الأزمة تفوق حد الوصف، فرجل السياسة السوداني عندما يجلس على الاريكة السلطوية يرنو للعيش خارج حدود هذا الوطن (التعيس)، فيهرب الى ماليزيا وتركيا وقطر والبحرين والامارات، فهو لم يتربى على حب هذا التراب بالقدر الذي يدفعه لكي يتطاول في بناء ناطحات السحاب على ضفاف النيل والنيلين الازرق والابيض، إنّه شخص مجبول على الاستلاب الثقافي والحضاري، فتراه يهرول نحو قاهرة المعز لدين الله الفاطمي ليتملك الشقق (السوبر ديلوكس). في عتمة ظلام هذا الطريق الخائن الذي سلكه الحكام الجدد، توجد انبثاقة للضوء خافتة تتراءى في نهاية النفق، فالحكمة المنقولة من قول سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم :(ارجو أن يخرج الله من اصلابهم من يعبد الله) هي العزاء الوحيد، وهي الحقيقة الكامنة في صمود الشباب الديسمبري الكاشف لأهوال جرائم النهب المنظم لثروات البلاد، وهي الخاتمة الحسنة للمهزلة الكبرى المستمرة لنحو اكثر من ست وستين سنة، وقد بانت تباشير الخلاص باضطراب وتعثر خطوات هذه الفئة الجديدة الحاكمة.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة